شيئا ، وكرّر قوله (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) عند الأمر بالطاعة والنهى عن الشرك ، ليعلم أن الإيمان لا ينفع إلا مع العمل ، كما أنّ العمل لا ينفع إلا مع الإيمان ، وأنه لا يفوز عند الله إلا الجامع بينهما. ألا ترى إلى قوله تعالى (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) والمعنى : قل يا محمد : ففرّوا إلى الله.
(كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ)(٥٣)
(كَذلِكَ) الأمر ، أى مثل ذلك ، وذلك إشارة إلى تكذيبهم الرسول وتسميته ساحرا ومجنونا ، ثم فسر ما أجمل بقوله (ما أَتَى) ولا يصح أن تكون الكاف منصوبة بأتى ، لأنّ ما النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها. ولو قيل : لم يأت ، لكان صحيحا ، على معنى : مثل ذلك الإتيان لم يأت من قبلهم رسول إلا قالوا (أَتَواصَوْا بِهِ) الضمير للقول ، يعنى : أتواصى الأوّلون والآخرون بهذا القول حتى قالوه جميعا متفقين عليه (بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) أى لم يتواصوا به لأنهم لم يتلاقوا في زمان واحد ، بل جمعتهم العلة الواحدة وهي الطغيان ، والطغيان هو الحامل عليه.
(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)(٥٥)
(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) فأعرض عن الذين كرّرت عليهم الدعوة فلم يجيبوا ، وعرفت عنهم العناد واللجاج ، فلا لوم عليك في إعراضك بعد ما بلغت الرسالة وبذلت مجهودك في البلاغ والدعوة ، ولا تدع التذكير والموعظة بأيام الله (فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) أى تؤثر في الذين عرف الله منهم أنهم يدخلون في الإيمان. أو يزيد الداخلين فيه إيمانا. وروى أنه لما نزلت (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتد ذلك على أصحابه ، ورأوا أنّ الوحى قد انقطع وأنّ العذاب قد حضر ، فأنزل الله. وذكر.
(وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ)(٥٦)
__________________
ـ فتوعد من لم يعبد الله ، ثم نهي عابده أن يشرك بعبادة ربه غيره ، وتوعده على ذلك. وفائدة تكرار النذارة الدلالة على أنه لا تنفع العبادة مع الاشراك ، بل حكم المشرك حكم الجاحد المعطل ، لا كما قال الزمخشري : المأمور به في الأول الطاعة الموظفة بعد الايمان ، فتوعد تاركها بالوعيد المعروف له وهو الخلود. وعلى هذا لا يكون تكرارا على اختلاف الوعيدين ، فهو أولى ، فكيف يحمل الآية على خلاف ما هو أولى بها ، ليتم الاستدلال بها على معتقده الفاسد ، نعوذ بالله من ذلك.