لما ذكر إرسال المنذرين في الأمم الخالية وسوء عاقبة المنذرين ، أتبع ذلك ذكر نوح ودعائه إياه حين أيس من قومه ، واللام الداخلة على نعم جواب قسم محذوف ، والمخصوص بالمدح محذوف تقديره : فو الله لنعم المجيبون نحن ، والجمع دليل العظمة والكبرياء. والمعنى : إنا أجبناه أحسن الإجابة ، وأوصلها إلى مراده وبغيته من نصرته على أعدائه والانتقام منهم بأبلغ ما يكون (هُمُ الْباقِينَ) هم الذين بقوا وحدهم وقد فنى غيرهم ، فقد روى أنه مات كل من كان معه في السفينة غير ولده. أو هم الذين بقوا متناسلين إلى يوم القيامة. قال قتادة : الناس كلهم من ذرية نوح. وكان لنوح عليه السلام ثلاثة أولاد : سام ، وحام ، ويافث. فسام أبو العرب ، وفارس ، والروم. وحام أبو السودان من المشرق إلى المغرب. ويافث أبو الترك ويأجوج ومأجوج (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) من الأمم هذه الكلمة ، وهي : (سَلامٌ عَلى نُوحٍ) يعنى يسلمون عليه تسليما ، ويدعون له ، وهو من الكلام المحكي ، كقولك : قرأت سورة أنزلناها. فإن قلت : فما معنى قوله (فِي الْعالَمِينَ)؟ قلت : معناه الدعاء بثبوت هذه التحية فيهم جميعا ، وأن لا يخلو أخد منهم منها ، كأنه قيل : ثبت الله التسليم على نوح وأدامه في الملائكة والثقلين يسلمون عليه عن آخرهم. علل مجازاة نوح عليه السلام بتلك التكرمة السنية من تبقية ذكره ، وتسليم العالمين عليه إلى آخر الدهر بأنه كان محسنا ، ثم علل كونه محسنا بأنه كان عبدا مؤمنا ، ليريك جلالة محل الإيمان ، وأنه القصارى من صفات المدح والتعظيم ، ويرغبك في تحصيله والازدياد منه.
(وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ)(٨٧)
(مِنْ شِيعَتِهِ) ممن شايعه على أصول الدين وإن اختلفت شرائعهما. أو شايعه على التصلب في دين الله ومصابرة المكذبين. ويجوز أن يكون بين شريعتيهما اتفاق في أكثر الأشياء. وعن ابن عباس رضى الله عنهما : من أهل دينه وعلى سنته ، وما كان بين نوح وإبراهيم إلا نبيان : هود ، وصالح. وكان بين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة. فإن قلت : بم تعلق الظرف؟ قلت : بما في الشيعة من معنى المشايعة ، يعنى : وإن ممن شايعه على دينه وتقواه حين جاء ربه بقلب سليم لإبراهيم. أو بمحذوف وهو : اذكر (بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) من جميع آفات القلوب. وقيل : من الشرك ، ولا معنى للتخصيص لأنه مطلق ، فليس بعض الآفات أولى من بعض فيتناولها كلها. فإن قلت : ما معنى المجيء بقلبه ربه؟ قلت : معناه أنه أخلص لله قلبه ، وعرف ذلك منه فضرب