(قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ)(٩٦)
(وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) يعنى خلقكم وخلق ما تعملونه من الأصنام ، كقوله (بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَ) أى فطر الأصنام. فإن قلت : كيف يكون الشيء الواحد مخلوقا لله معمولا لهم ، حيث أوقع خلقه وعملهم عليها جميعا؟ قلت : هذا كما يقال : عمل النجار الباب (١) والكرسي ، وعمل الصائغ السوار والخلخال ، والمراد عمل أشكال هذه الأشياء وصورها دون جواهرها ، والأصنام جواهر وأشكال ، فخالق جواهرها الله ، وعاملو أشكالها الذين يشكلونها بنحتهم وحذفهم بعض أجزائها ، حتى يستوي التشكيل الذي يريدونه. فإن قلت : فما أنكرت (٢) أن تكون ما مصدرية لا موصولة ، ويكون المعنى : والله خلقكم وعملكم ، كما تقول المجبرة (٣)؟ قلت : أقرب ما يبطل به هذا السؤال بعد بطلانه
__________________
(١) قال محمود : «يعنى خلقكم وما تعملون من الأصنام ، كقوله (بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَ) فان قلت : كيف يكون الشيء الواحد مخلوقا لله تعالى معمولا لهم؟ وأجاب بأن هذا كما يقال : عمل النجار الباب ... إلى أن قال : ... وفي ذلك فك للنظم وتبتير كما لو جعلتها مصدرية» اه كلامه. قال أحمد : إذا جاء سيل الله ذهب سيل معقل ، فنقول : يتعين حملها على المصدرية ، وذلك أنهم لم يعبدوا هذه الأصنام من حيث كونها حجارة ليست مصورة ، فلو كان كذلك لم يتعاونوا في تصويرها ، ولا اختصوا بعبادتهم حجرا دون حجر ، فدل أنهم إنما يعبدونها باعتبار أشكالها وصورها التي هي أثر عملهم ، ففي الحقيقة أنهم عبدوا عملهم ، وصلحت الحجة عليهم بأنهم مثله ، مع أن المعبود كسب العابد وعمله ، فقد ظهر أن الحجة قائمة عليهم على تقدير أن تكون ما مصدرية أوضح قيام وأبلغه ، فإذا أثبت ذلك فليتتبع كلامه بالابطال. أما قوله أنها موصولة ، وأن المراد بعملهم لها عمل أشكالها فمخالف للظاهر ، فانه مفتقر إلى حذف مضاف في موضع اليأس يكون تقديره : والله خلقكم وما تعملون شكله وصورته ، بخلاف توجيه أهل السنة فانه غير مفتقر إلى حذف البتة ، ثم إذا جعل المعبود نفس الجوهر ، فكيف يطابق توبيخهم ببيان أن المعبود من عمل العابد ، مع موافقته على أن جواهر الأصنام ليست من عملهم؟ فما هو من عملهم وهو الشكل ليس معبودا لهم على هذا التأويل ، وما هو معبودهم وهو جوهر الصنم ليس من عملهم ، فلم يستقر له قرار في أن المعبود على تأويله من عمل العابد ، وعلى ما قررناه يتضح. وأما قوله : إن المطابقة تنفك على تأويل أهل السنة بين ما ينحتون وما يعملون فغير صحيح ، فان لنا أن نحمل الأولى على أنها مصدرية وأنهم في الحقيقة إنما عبدوا نحتهم ، لأن هذه الأصنام وهي حجارة قبل النحت لم يكونوا يعبدونها ، فلما عملوا فيها النحت عبدوها ، ففي الحقيقة ما عبدوا سوى تحتهم الذي هو عملهم ، فالمطابقة إذا حاصلة ، والإلزام على هذا أبلغ وأمتن ، ولو كان كما قال لقامت لهم الحجة ، ولقالوا كما يقول الزمخشري مكافحين لقوله (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) بأن يقولوا : لا ولا كرامة ، ولا يخلق الله ما نعمل نحن ، لأنا إنما عملنا التشكيل والتصوير وهذا لم يخلقه الله ، وكانوا يجدون الذريعة إلى اقتحام الحجة ، ويأبى الله إلا أن تكون لنا الحجة البالغة ولهم الأكاذب الفارغة ، فهذا إلزام بل إلجام لمن خالف السنة ، وغل بعنقه ، وعقر بكتفه ، وضرب على يده ، حتى يرجع إلى الحق آئبا ، ويعترف بخطئه تائبا.
(٢) قوله «فان قلت فما أنكرت»؟ لعله : لم أنكرت. (ع)
(٣) قوله «كما تقول المجبرة» يريد أهل السنة حيث ذهبوا إلى أنه لا خالق إلا الله ، فهو الخالق لعمل العبد ـ