أنه خلق منتصبا غير منكب ، كما قال عز وجل (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ). فإن قلت : فكم من دميم مشوّه الصورة سمج الخلقة تقتحمه العيون؟ قلت : لا سماجة ثم ولكن الحسن كغيره من المعاني على طبقات ومراتب ، فلانحطاط بعض الصور عن مراتب ما فوقها انحطاطا بينا وإضافتها إلى الموفى (١) عليها لا تستملح ، وإلا فهي داخلة في حيز الحسن غير خارجة عن حدّه. ألا ترى أنك قد تعجب بصورة وتستملحها ولا ترى الدنيا بها ، ثم ترى أملح وأعلى في مراتب الحسن منها فينبو عن الأولى طرفك ، وتستثقل النظر إليها بعد افتتانك بها وتهالكك عليها. وقالت الحكماء : شيئان لا غاية لهما : الجمال ، والبيان. نبه بعلمه ما في السماوات والأرض ، ثم بعلمه ما يسره العباد ويعلنونه ، ثم بعلمه ذوات الصدور : أنّ شيئا من الكليات والجزئيات غير خاف عليه ولا عازب عنه ، فحقه أن يتقى ويحذر ولا يجترأ على شيء مما يخالف رضاه. وتكرير العلم في معنى تكرير الوعيد ، وكل ما ذكره بعد قوله تعالى (فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) كما ترى في معنى الوعيد على الكفر ، وإنكار أن يعصى الخالق ولا تشكر نعمته فما أجهل من يمزج الكفر بالخلق (٢) ويجعله من جملته ، والخلق : أعظم نعمة من الله على عباده ، والكفر : أعظم كفران من العباد لربهم.
(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٥) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)(٦)
(أَلَمْ يَأْتِكُمْ) الخطاب لكفار مكة. و (ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من الوبال الذي ذاقوه في الدنيا وما أعدّلهم من العذاب في الآخرة (بِأَنَّهُ) بأنّ الشأن والحديث (كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ ...... أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) أنكروا أن تكون الرسل بشرا ، ولم ينكروا أن يكون الله حجرا (وَاسْتَغْنَى اللهُ) أطلق ليتناول كل شيء ، ومن جملته إيمانهم وطاعتهم. فإن قلت : قوله (وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ) يوهم وجود التولي والاستغناء معا (٣) ، والله تعالى لم يزل غنيا. قلت : معناه : وظهر استغناء الله حيث لم يلجئهم إلى الإيمان ولم يضطرهم إليه مع قدرته على ذلك.
__________________
(١) قوله «وإضافتها إلى الموفى عليها» يعنى إلى المتفوق عليها من الصور. (ع)
(٢) قوله «فما أجهل من يمزج الكفر بالخلق» يريد أهل السنة ، حيث يقولون أنه تعالى هو الخالق لأعمال العباد حتى الكفر وغيره من المعاصي ، ولا وجه لتجهيلهم مع استنادهم إلى قوله تعالى «والله خلقكم وما تعملون. (ع)
(٣) قال محمود : «أطلقه ليتناول كل شيء ثم قال فان قلت كان التولي فيهم ... الخ» قال أحمد : إنما الحق أنه لم يخلق لهم إيمانا ولا قدرة عليه ، فكان قادرا أن يخلق لهم الايمان والقدرة عليه ، وإنما حرفها الزمخشري إلى قاعدته.