ومما يدل عليه أنّ الله تعالى وصفه بالصبر دون أخيه إسحاق في قوله (وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ) وهو صبره على الذبح ، ووصفه بصدق الوعد في قوله (إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ) لأنه وعد أباه الصبر من نفسه على الذبح فوفى به ، ولأن الله بشره بإسحاق وولده يعقوب في قوله (فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) فلو كان الذبيح إسحاق لكان خلفا للموعد في يعقوب. وعن على بن أبى طالب وابن مسعود والعباس وعطاء وعكرمة وجماعة من التابعين : أنه إسحاق. والحجة فيه أن الله تعالى أخبر عن خليله إبراهيم حين هاجر إلى الشام بأنه استوهبه ولدا ، ثم أتبع ذلك البشارة بغلام حليم ، ثم ذكر رؤياه بذبح ذلك الغلام المبشر به. ويدل عليه كتاب يعقوب إلى يوسف : من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله ابن ابراهيم خليل الله (١). فإن قلت : قد أوحى إلى إبراهيم صلوات الله عليه في المنام بأن يذبح ولده ولم يذبح ، وقيل له : قد صدقت الرؤيا ، وإنما كان يصدقها لو صح منه الذبح ، ولم يصح (٢)
__________________
(١) أخرجه الترمذي في النوادر في الحادي والعشرين بعد المائتين : حدثنا عمر بن أبى عمر حدثنا عصام بن المثنى الحمصي عن أبيه عن وهب بن منبه قال «كتب يعقوب كتابا فيه : بسم الله الرحمن الرحيم. من يعقوب نبى الله إلى آخره» وأخرج الدارقطني في غرائب مالك من رواية إسحاق بن وهب الطوسي عن ابن وهب عن مالك عن نافع عن ابن عمر رفعه «أوحى إلى ملك الموت أن ائت يعقوب فسلم عليه فذكر الحديث ـ وفيه فقال : اكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله إلى عزيز مصر أما بعد فانا أهل بيت فذكره مطولا. قال الدارقطني : هذا موضوع. وإسحاق كان يضع الحديث على ابن وهب. وقد تقدم في يوسف من وجه آخر.
(٢) قال محمود : «فان قلت قد أوحى إلى إبراهيم في المنام أن يذبح ولده ولم يذبح ، وقيل له : قد صدقت الرؤيا وإنما كان يصدقها لو صح منه الذبح ، ولم يصح. فأجاب بأنه قد بذل وسعه وفعل ما يفعله الذابح من بطحه على شقه وإمرار الشفرة على حلقه ، ولكن الله سبحانه منع الشفرة أن تمضى فيه وهذا لا يقدح في فعل إبراهيم ، ألا ترى أنه لا يسمى عاصيا ولا مفرطا بل يسمى مطيعا ومجتهدا ، كما لو مضت فيه الشفرة وفرت الأوداج وأنهرت الدم ، وليس هذا من ورود النسخ على المأمور به قبل الفعل ولا قل أوان الفعل في شيء ، كما يسبق إلى بعض الأوهام حتى يشتغل بالكلام عليه. انتهى كلامه» قال أحمد : كل ما ذكر دندنة حول امتناع النسخ قبل التمكن من الفعل ، وتلك قاعدة المعتزلة. وأما أهل السنة فيثبتون جوازه ، لأن التكليف ثابت قبل التمكن من الفعل ، فجاز رفعه كالموت. وأيضا فكل نسخ كذلك ، لأن القدرة على الفعل عندنا مقارنة لا متقدمة ، ثم يثبتون وقوعه بهذه الآية. ووجه الدليل منها أن إبراهيم عليه السلام أمر بالذبح بدليل (افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) ونسخ قبل التمكن بدليل العدول إلى الفداء ، فمن ثم تحوم الزمخشري على أنه فعل غاية وسعه من بطحه على شقه وإمرار الشفرة على حلقه ، وإنما امتنعت بأمر من الله تعالى ، وغرضه بذلك أحد أمرين : إما أن يكون الأمر إنما توجه عليه بمقدمات الذبح وقد حصلت لا بنفس الذبح ، أو توجه الأمر بنفس الذبح وتعاطيه ، ولكن لم يتمكن. وكلا الأمرين لا يخلصه. أما قوله : أمر بمقدمات الذبح فباطل بقوله (إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) وقوله (افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) وأما قوله : لم يتمكن لأن الشفرة منعت بأمر من الله تعالى بعد تسليم الأمر بالذبح ، فحاصله أنه لم يتمكن من الذبح المأمور به ، فكان النسخ إذا قبل التمكن ، وهو عين ما أنكره المعتزلة ، ولما لم يكن في هذين الجوابين لهم خلاص : لجأ بعضهم إلى تسليم أنه أمر بالذبح ، ودعوى أنه ذبح ولكنه كان يلتحم ، وهو باطل لا ثبوت له. وسياق الآية يخل دعواه ويفل ثنياه.