الغالب الذي لا يعجزه من أساء العمل (الْغَفُورُ) لمن تاب من أهل الإساءة (طِباقاً) مطابقة بعضها فوق بعض ، من طابق النعل : إذا خصفها طبقا على طبق ، وهذا وصف بالمصدر. أو على ذات طباق ، أو على : طوبقت طباقا (مِنْ تَفاوُتٍ) وقرئ : من تفوت. ومعنى البناءين واحد ، كقولهم : تظاهروا من نسائهم. وتظهروا. وتعاهدته وتعهدته ، أى : من اختلاف واضطراب في الخلقة ولا تناقض ، إنما هي مستوية مستقيمة. وحقيقة التفاوت : عدم التناسب ، كأن بعض الشيء يفوت بعضا ولا يلائمه. ومنه قولهم : خلق متفاوت. وفي نقيضه : متناصف. فإن قلت : كيف موقع هذه الجملة مما قبلها؟ قلت : هي صفة مشايعة لقوله (طِباقاً) وأصلها : ما ترى فيهنّ من تفاوت ، فوضع مكان الضمير قوله (خَلْقِ الرَّحْمنِ) تعظيما لخلقهنّ ، وتنبيها على سبب سلامتهنّ من التفاوت : وهو أنه خلق الرحمن ، وأنه بباهر قدرته هو الذي يخلق مثل ذلك الخلق المتناسب ، والخطاب في ما ترى للرسول أو لكل مخاطب. وقوله تعالى (فَارْجِعِ الْبَصَرَ) متعلق به على معنى التسبيب ، أخبره بأنه لا تفاوت في خلقهنّ ، ثم قال (فَارْجِعِ الْبَصَرَ) حتى يصح عندك ما أخبرت به بالمعاينة ، ولا تبقى معك شبهة فيه (هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) من صدوع وشقوق : جمع فطر وهو الشق. يقال : فطره فانفطر. ومنه : فطر ناب البعير ، كما يقال : شق وبزل. ومعناه : شق اللحم فطلع. وأمره بتكرير البصر فيهنّ متصفحا ومتتبعا يلتمس عيبا وخللا (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ) أى إن رجعت البصر وكررت النظر لم يرجع إليك بصرك بما التمسته من رؤية الخلل وإدراك العيب ، بل يرجع إليك بالخسوء والحسور ، أى : بالبعد عن إصابة الملتمس. كأنه يطرد عن ذلك طردا بالصغار والقماءة (١). وبالإعياء والكلال لطول الإجالة والبرديد. فإن قلت : كيف ينقلب البصر خاسئا حسيرا برجعه كرّتين اثنتين؟ قلت : معنى التثنية التكرير بكثرة (٢) ، كقولك : لبيك وسعديك ، تريد إجابات كثيرة بعضها في أثر بعض ، وقولهم في المثل : دهدرّين سعد القين (٣) من ذلك. أى : باطلا بعد باطل. فإن قلت : فما معنى ثم ارجع؟ قلت : أمره يرجع
__________________
(١) قوله «بالصغار والقماءة» أى : الصغر والذل ، كما في الصحاح. (ع)
(٢) قال محمود : «لم خص الكرتين؟ فأجاب بأن معنى التئنية هاهنا التكثير ... الخ» قال أحمد : وفي قوله (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ) وضع الظاهر موضع المضمر. وفيه من الفائدة : التنبيه على أن الذي يرجع خاسئا حسيرا غير مدرك الفطور : هو الآلة التي يلتمس بها إدراك ما هو كائن ، فإذا لم يدرك شيء دل على أنه لا شيء. ومن هذا القبيل قوله (خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) وأصله : ما ترى في خلقهن من تفاوت ، ولكنه ذكرهن منسربات لخلق الرحمن ، تنبيها على السبب الذي ربأ بهن على الفطور والتفاوت.
(٣) قوله «دهدرين ... الخ» في القاموس بضم الدالين وفتح الراء المشددة : اسم لبطل ، وللباطل والكذب كالدهدر. ودهدرين سعد القين : أى بطل سعد الحداد. أو أن فينا ادعى أن اسمه سعد زمانا ، ثم تبين كذبه ، فقيل له ذلك» أى : جمعت باطلا إلى باطل يا سعد الحصاد. ويروى منفصلا «ده» أمر من الدهاء ، و «درين» من در : أى تتابع ، أى : بالغ في الكذب يا سعد. وفيه غير ذلك ، فراجعه ، كذا بهامش الأصل. (ع)