(فَهُمْ مُقْمَحُونَ) ألا ترى كيف جعل الإقماح نتيجة قوله (فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ) ولو كان الضمير للايدى لم يكن معنى التسبب في الإقماح ظاهرا على أن هذا الإضمار فيه ضرب من التعسف وترك الظاهر الذي يدعوه المعنى إلى نفسه إلى الباطن الذي يجفو عنه وترك للحق الأبلج إلى الباطل اللجلج (١). فإن قلت : فقد قرأ ابن عباس رضى الله عنهما في أيديهم وابن مسعود في أيمانهم ، فهل تجوّز على هاتين القراءتين أن تجعل الضمير للأيدى أو للايمان؟ قلت : يأبى ذلك وإن ذهب الإضمار المتعسف ظهور كون الضمير للاغلال ، وسداد المعنى عليه كما ذكرت. وقرئ : سدا بالفتح والضم. وقيل : ما كان من عمل الناس فبالفتح ، وما كان من خلق الله فبالضم (فَأَغْشَيْناهُمْ) فأغشينا أبصارهم ، أى : غطيناها وجعلنا عليها غشاوة عن أن تطمح إلى مرئى ، وعن مجاهد : فأغشيناهم : فألبسنا أبصارهم غشاوة. وقرئ بالعين من العشا. وقيل : نزلت في بنى مخزوم ، وذلك أن أبا جهل حلف لئن رأى محمدا يصلى ليرضخن رأسه ، فأتاه وهو يصلى ومعه حجر ليدمغه به ، فلما رفع يده أثبتت إلى عنقه ولزق الحجر بيده حتى فكوه عنها بجهد ، فرجع إلى قومه فأخبرهم ، فقال مخزومى آخر : أنا أقتله بهذا الحجر ، فذهب ، فأعمى الله عينيه (٢)
(وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ)(١١)
فإن قلت : قد ذكر ما دلّ على انتفاء إيمانهم مع ثبوت الإنذار ، ثم قفاه بقوله (إِنَّما تُنْذِرُ) (٣) وإنما كانت تصح هذه التقفية لو كان الإنذار منفيا. قلت : هو كما قلت ، ولكن لما كان ذلك نفيا للايمان مع وجود الإنذار وكان معناه أن البغية المرومة بالإنذار غير حاصلة وهي الإيمان ، قفى بقوله (إِنَّما تُنْذِرُ) على معنى : إنما تحصل البغية بإنذارك من غير هؤلاء المنذرين وهم المتبعون للذكر : وهو القرآن أو الوعظ ، الخاشون ربهم.
__________________
ـ أتم على هذا التفسير ، فان اليد متى كانت مرسلة مخلاة كان للمغلول بعض الفرج بإطلاقها ، ولعله يتحيل بها على فكاك الغل ، ولا كذلك إذا كانت مغلولة ، فيضاف إلى ما ذكرناه من التشبيهات المفرقة أن يكون انسداد باب الحيل عليهم في الهداية والاتخلاع من ربقة الكفر المقدر عليهم مشبها بغل الأيدى ، فان اليد آلة الحيلة إلى الخلاص.
(١) قوله «إلى الباطل اللجلج» أى الذي يردد من غير أن ينفذ. أفاده الصحاح. (ع)
(٢) أخرجه ابن إسحاق في السيرة في كلام طويل. ورواه أبو نعيم في الدلائل من طريق ابن إسحاق : حدثني محمد بن محمد بن سعيد ، أو عكرمة ، عن ابن عباس «أن أبا جهل قال : إنى أعاهد الله لأجلسن غدا لمحمد بحجر ما أطيق حمله فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه. فذكر نحوه إلى قوله قد يبست يداه على حجره ، حتى قذف الحجر بين يديه : وأصله في البخاري من طريق عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما.
(٣) قال محمود : «إن قلت : قد ذكر ما دل على انتفاء إيمانهم مع ثبوت الانذار ، ثم قفاه بقوله (إِنَّما تُنْذِرُ) وإنما كانت التقفية تصح لو كان الانذار منفيا ، وأجاب بأن الأمر كذلك ، ولكن لما بين أن البغية المرومة بالإنذار وهي الايمان منفية عنهم : قفاه بقوله (إِنَّما تُنْذِرُ) أى إنما تحصل بغية الانذار ـ