فرّاس كان بين ثوبيه ، يدق الظلمة بإنكاره ، ويقصع أهل الأهواء (١) والبدع باحتجاجه.
(فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ)(١٦)
فإن قلت : بم اتصل قوله (٢) (فَأَمَّا الْإِنْسانُ)؟ قلت : بقوله (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) كأنه قيل : إن الله لا يريد من الإنسان إلا الطاعة والسعى للعاقبة ، وهو مرصد بالعقوبة للعاصي ، فأما الإنسان فلا يريد ذلك ولا يهمه إلا العاجلة وما يلذه وينعمه فيها. فإن قلت : فكيف توازن قوله ، فأما الإنسان ، (إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ) وقوله (وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ) (٣) وحق التوازن أن يتقابل الواقعان بعد أما وأما ، تقول : أما الإنسان فكفور ، وأما الملك فشكور. أما إذا أحسنت إلى زيد فهو محسن إليك ، وأما إذا أسأت إليه فهو مسيء إليك؟ قلت : هما متوازنان من حيث إنّ التقدير : وأما هو إذا ما ابتلاه ربه ، وذلك أن قوله (فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) خبر المبتدأ الذي هو الإنسان ، ودخول الفاء لما في «أما» من معنى الشرط ، والظرف المتوسط بين المبتدأ والخبر في تقدير التأخير ، كأنه قيل : فأما الإنسان فقائل ربى أكرمن وقت الابتلاء ، فوجب أن يكون (فَيَقُولُ) الثاني خبرا لمبتدإ واجب تقديره. فإن قلت : كيف سمى كلا الأمرين من بسط الرزق وتقديره ابتلاء؟ قلت : لأنّ كل واحد منهما اختبار للعبد ، فإذا بسط له فقد اختبر حاله أيشكر أم يكفر؟ وإذا قدر عليه فقد اختبر حاله أيصبر أم يجزع؟ فالحكمة فيهما واحدة. ونحوه قوله تعالى (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً). فإن قلت : هلا قال : فأهانه وقدر عليه رزقه ، كما قال فأكرمه ونعمه؟ قلت : لأن البسط إكرام من الله لعبده بإنعامه عليه متفضلا من غير سابقة (٤) ، وأما التقدير فليس بإهانة له ، لأنّ الإخلال بالتفضل لا يكون إهانة ، ولكن تركا للكرامة ، وقد يكون المولى مكرما لعبده ومهينا له ، وغير مكرم ولا مهين ، وإذا أهدى لك زيد هدية قلت : أكرمنى بالهدية ، ولا تقول : أهاننى
__________________
(١) قوله «ويقصع أهل الأهواء» في الصحاح «قصعت الرجل» صغرته وحقرته. (ع)
(٢) قال محمود : «إن قلت : كيف اتصل قوله (فَأَمَّا الْإِنْسانُ) بما قبله ... الخ» قال أحمد : قوله لا يريد من الإنسان إلا الطاعة ولا يأمره إلا بها : فاسد الصدر ، مبنى على أصله الفاسد ، سليم العجز.
(٣) قال محمود : «فان قلت كيف توازن قوله (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ) وقوله (وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ) قال أحمد : يريد أنه صدر ما بعد أما الأولى بالاسم ، وما بعد أما الثانية بالفعل. ومقصود السائل أن يكونا مصدرين : إما باسمين أو بفعلين.
(٤) قال محمود : «فان قلت هلا قال فأهانه وقدر عليه رزقه ، كما قال فأكرمه ونعمه؟ وأجاب بأن البسط إكرام من الله تعالى العبد من غير سابقة» قال أحمد : «قيد زائد تفريعا على أصله الفاسد ، والحق أن كل نعمة من الله كذلك.