وبكر خالدا ، فترفع بالواو وتنصب لقيامها مقام ضرب الذي هو عاملهما. جعلت «ما» مصدرية في قوله (وَما بَناها وَما طَحاها وَما سَوَّاها) وليس بالوجه لقوله (فَأَلْهَمَها) وما يؤدى إليه من فساد النظم. والوجه أن تكون موصولة ، وإنما أوثرت على من لإرادة معنى الوصفية ، كأنه قيل : والسماء ، والقادر العظيم الذي بناها ، ونفس ، والحكيم الباهر الحكمة الذي سواها ، وفي كلامهم : سبحان ما سخركن لنا. فإن قلت : لم نكرت النفس؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن يريد نفسا خاصة من بين النفوس وهي نفس آدم ، كأنه قال : وواحدة من النفوس. والثاني : أن يريد كل نفس وينكر للتكثير على الطريقة المذكورة في قوله (عَلِمَتْ نَفْسٌ). ومعنى إلهام الفجور والتقوى : إفهامهما وإعقالهما ، وأنّ أحدهما حسن والآخر قبيح ، وتمكينه من اختيار ما شاء منهما (١) بدليل قوله (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) فجعله فاعل التزكية (٢)
__________________
(١) قال محمود : «معنى إلهام الفجور والتقوى إفهامهما وإعقالهما ، وأن أحدهما حسن والآخر قبيح ، وتمكينه ... الخ» قال أحمد : بين في هذا الكلام نوعين من الباطل ، أحدهما في قوله : معنى إلهام الفجور والتقوى إفهامهما وإعقالهما ، وأن أحدهما حسن والآخر قبيح ، والذي يكنه في هذه الكلمات اعتقاد أن الحسن والقبح مدركان بالعقل. ألا ترى إلى قوله : إعقالهما ، أى خلق العقل الموصل إلى معرفة حسن الحسن وقبح القبيح ، وإنما اغتنم في هذا فرصة إشعار الإلهام بذلك ، فانه ربما يظن أن إطلاقه على العلم المستفاد من السمع بعيد ، والذي يقطع دابر هذه النزغة أنا وإن قلنا إن الحسن والقبح لا يدركان إلا بالسمع لأنهما راجعان إلى الأحكام الشرعية التي ليست عندنا بصفات الأفعال ، فانا لا نلغى حظ العقل من إدراك الأحكام الشرعية ، بل لا بد في علم كل حكم شرعي من المقدمتين : عقلية ، وهي الموصلة إلى العقيدة. وسمعية مفرعة عليها ، وهي الدالة على خصوص الحكم. على أن تعلقه بظاهر لو سلم ظهوره في قاعدة قطعية بمعزل عن الصواب. النزغة الثانية : وهي التي كشف القناع في إبرازها أن التزكية وقسيمها ليس مخلوقين لله تعالى ، بل لشركائه المعتزلة ، وإنما نعارضه في الظاهر من فحوى الآية ، على أنه لم يذكر وجها في الرد على من قال : إن الضمير لله تعالى ، وإنما اقتصر على الدعوى مقرونة بسفاهته على أهل السنة ، فنقول : لا مراء في احتمال عود الضمير إلى الله تعالى وإلى ذى النفس ، لكن عوده إلى الله تعالى أولى لوجهين ، أحدهما : أن الجمل سيقت سياقة واحدة من قوله (وَالسَّماءِ وَما بَناها) وهلم جرا ، والضمائر فيما تقدم هذين الفعلين عائدة إلى الله تعالى بالاتفاق ، ولم يجر لغير الله تعالى ذكر. وإن قيل بعود الضمير إلى غيره : فإنما يتمحل لجوازه بدلالة الكلام ضمنا واستلزاما ، لا ذكرا ونطقا ، وما جرى ذكره أولى أن يعود الضمير عليه. الثاني : أن الفعل المستعمل في الآية التي استدل بها في قوله (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) «تفعل» ، ولا شك أن «تفعل» مطاوع «فعل» فهذا بأن يدل لنا ، أولى من أن يدل له ، لأن الكلام عندنا نحن : قد أفلح من زكاه الله فتزكى ، وعنده الفاعل في الاثنين واحد ، أضاف إليه الفعلين المختلفين ، ويحتاج في تصحيح الكلام إلى تعديد اعتبار وجهه ، ونحن عنه في غنية ، على أنا لا نأبى أن تضاف التزكية والتدسية إلى العبد ، على طريقة أنه الفاعل ، كما يضاف إليه الصلاة والصيام وغير ذلك من أفعال الطاعات ، لأن له عندنا اختيارا وقدرة مقارنة ، وإن منعنا البرهان العقلي الدال على وحدانية الله تعالى ونفى الشريك أن نجعل قدرة العبد مؤثرة خالقة ، فهذا جوابنا على الآية تنزلا ، وإلا فلم يذكر وجها من الرد ، فيلزمنا الجواب عنه ، وأما جوابنا عن سفاهته على أهل السنة ، فالسكوت ، والله الموفق.
(٢) قوله «فجعله فاعل التزكية» مبنى على مذهب المعتزلة : من أن العبد هو الفاعل لأفعاله الاختيارية. وذهب أهل السنة إلى أن الفاعل لها في الحقيقة هو الله تعالى ، كما تقرر في علم التوحيد. (ع)