كما وصف بالأمن في قوله تعالى (حَرَماً آمِناً) بمعنى : ذى أمن. ومعى القسم بهذه الأشياء. الإبانة عن شرف البقاع المباركة وما ظهر فيها من الخير والبركة بسكنى الأنبياء والصالحين ، فمنبت التين والزيتون مهاجر إبراهيم ومولد عيسى ومنشؤه. والطور : المكان الذي نودي منه موسى. ومكة : مكان البيت الذي هو هدى للعالمين ، ومولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومبعثه (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) في أحسن تعديل لشكله وصورته وتسوية لأعضائه. ثم كان عاقبة أمره حين لم يشكر نعمة تلك الخلقة الحسنة القويمة السوية : أن رددناه أسفل من سفل خلقا وتركيبا ، يعنى : أقبح من قبح صورة وأشوهه خلقة ، وهم أصحاب النار أو أسفل من سفل من أهل الدركات. أو ثم رددناه بعد ذلك التقويم والتحسين أسفل من سفل في حسن الصورة والشكل : حيث نكسناه في خلقه ، فقوّس ظهره بعد اعتداله ، وابيض شعره بعد سواده ، وتشنن (١) جلده وكان بضا ، وكلّ سمعه وبصره وكانا حديدين ، وتغير كل شيء منه : فمشيه دليف (٢) ، وصوته خفات ، وقوته ضعف ، وشهامته خرف (٣) وقرأ عبد الله : أسفل السافلين. فإن قلت : فكيف الاستثناء على المذهبين؟ قلت : هو على الأول متصل ظاهر الاتصال ، وعلى الثاني منقطع. يعنى : ولكن الذين كانوا صالحين من الهرمى فلهم ثواب دائم غير منقطع على طاعتهم وصبرهم على ابتلاء الله بالشيخوخة والهرم ، وعلى مقاساة المشاق والقيام بالعبادة على تخاذل نهوضهم. فإن قلت : (فَما يُكَذِّبُكَ) من المخاطب به؟ قلت : هو خطاب للإنسان على طريقة الالتفات ، أى : فما يجعلك كاذبا بسبب الدين وإنكاره بعد هذا الدليل ، يعنى أنك تكذب إذا كذبت بالجزاء ، لأنّ كل مكذب بالحق فهو كاذب ، فأىّ شيء يضطرك إلى أن تكون كاذبا بسبب تكذيب الجزاء. والباء مثلها في قوله تعالى (الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) والمعنى : أنّ خلق الإنسان من نطفة ، وتقويمه بشرا سويا وتدريجه في مراتب الزيادة إلى أن يكمل ويستوي ، ثم تنكيسه إلى أن يبلغ أرذل العمر : لا ترى دليلا أوضح منه على قدرة الخالق ، وأن من قدر من الإنسان على هذا كله : لم يعجز عن إعادته ، فما سبب تكذيبك أيها الإنسان بالجزاء بعد هذا الدليل القاطع. وقيل : الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) وعيد للكفار ، وأنه يحكم عليهم بما هم
__________________
(١) قوله «وتشنن جلده» في الصحاح التشنن : التشيخ واليبس في جلد الإنسان ، والضاضة : رقة الجلد ورخوصته. (ع)
(٢) قوله «فمشبه دليف» أى مشى رويد متقارب الخطو. (ع)
(٣) قوله «وشهامته خوف» لعله : خوف. (ع)