متم وقبرتم ، منفقين أعماركم في طلب الدنيا والاستباق إليها والتهالك عليها ، إلى أن أتاكم الموت لا همّ لكم غيرها ، عما هو أولى بكم من السعى لعاقبتكم والعمل لآخرتكم. وزيارة القبور : عبارة عن الموت. قال :
لن يخلص العام خليل عشرا |
|
ذاق الضّماد أو يزور القبرا (١) |
وقال : زار القبور أبو مالك |
|
فأصبح الأمّ زوّارها (٢) |
وقرأ ابن عباس : أألهاكم؟ على الاستفهام الذي معناه التقرير (كَلَّا) ردع وتنبيه على أنه لا ينبغي الناظر لنفسه أن تكون الدنيا جميع همه ولا يهتم بدينه (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) إنذار ليخافوا فينتبهوا عن غفلتهم. والتكرير : تأكيد للردع والإنذار عليهم. و (ثُمَ) دلالة على أن الإنذار الثاني أبلغ من الأوّل وأشد ، كما تقول للمنصوح : أقول لك ثم أقول لك : لا تفعل. والمعنى : سوف تعلمون الخطأ فيما أنتم عليه إذا عاينتم ما قدّامكم من هول لقاء الله ، وإنّ هذا التنبيه نصيحة لكم ورحمة عليكم. ثم كرّر التنبيه أيضا وقال (لَوْ تَعْلَمُونَ) محذوف الجواب ، يعنى : لو تعلمون ما بين أيديكم علم الأمر اليقين ، أى : كعلمكم ما تستيقنونه من الأمور التي وكلتم بعلمها هممكم : لفعلتم ما لا يوصف ولا يكتنه ، ولكنكم ضلال جهلة ، ثم قال (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) فبين لهم ما أنذرهم منه وأوعدهم به ، وقد مرّ ما في إيضاح الشيء بعد إبهامه من تفخيمه وتعظيمه ، وهو جواب قسم محذوف ، والقسم لتوكيد الوعيد ، وأن ما أوعدوا به مالا مدخل فيه للريب ، وكرره معطوفا بثم تغليظا في التهديد وزيادة في التهويل. وقرئ : لترؤن بالهمز ، وهي مستكرهة. فإن قلت : لم استكرهت والواو المضمومة قبلها همزة قياس مطرد؟ قلت : ذاك في الواو التي ضمتها لازمة ، وهذه عارضة لالتقاء الساكنين. وقرئ : لترون ، ولترونها : على البناء للمفعول (عَيْنَ الْيَقِينِ) أى الرؤية التي هي نفس اليقين وخالصته. ويجوز أن يراد بالرؤية :
__________________
(١) إنى رأيت الضمد هيئا نكرا |
|
لن يخلص العام حليل عشرا |
ذاق الضماد أو يزور القبرا |
للأخطل. وضمد رأسه : عصبه. وضمد جرحه : ألصق عليه الدواء. والضمد والضماد : الحقد ، لكتمه في القلب والتزوج لضم المرأة إلى الرجل. والنكر : المنكر ، ولن يخلص : بيان لوجه إنكار الضمد أى التزوج. والعام :
نصب على الظرفية. ويروى ، حليل بالمهملة وبالمعجمة. وعشرا ـ بالكسر : أى معاشرة ، وبفتحها : أى عشر ليال. وذاق الضماد : صفة حليل ، فصلت عنه بالمفعول. وشبه الضماد بالمطعوم المكروه بحسب ما رأى على طريق الكناية ، والذوق تخييل. وزيارة القبر : كناية عن الموت ، أى : لن يخلص إلى أن يموت ، ولا ينافيه التقييد بالعام لإمكان الموت فيه ، ولعله كان جدبا.
(٢) زار القبور ، أى : مات. وفيه نوع تهكم به حيث كنى عن الموت المكروه عادة بالزيارة المحبوبة ، وألأم : أفعل تفضيل من اللؤم ، أى : الحسة. والزوار : جمع زائر ، أى : كان ألأم الأحياء ، فأصبح ألأم الأموات.