وقال الخليل في «لن» : أنّ أصله «لا أن» والمعنى : لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه منى من عبادة آلهتكم ، ولا أنتم فاعلون فيه ما أطلب منكم من عبادة إلهى (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) أى : وما كنت قط عابدا فيما سلف ما عبدتم (١) فيه ، يعنى لم تعهد منى عبادة صنم في الجاهلية ، فكيف ترجى منى في الإسلام (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) أى : وما عبدتم في وقت ما أنا على عبادته. فإن قلت : فهلا قيل : ما عبدت ، كما قيل : ما عبدتم؟ قلت : لأنهم كانوا يعبدون الأصنام قبل المبعث ، وهو لم يكن يعبد الله تعالى في ذلك الوقت. فإن قلت : فلم جاء على «ما» دون «من»؟ قلت ، لأن المراد الصفة ، كأنه قال : لا أعبد الباطل ، ولا تعبدون الحق. وقيل : إن «ما» مصدرية ، أى : لا أعبد عبادتكم ، ولا تعبدون عبادتي (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) لكم شرككم ، ولى توحيدي. والمعنى : أنى نبىّ مبعوث إليكم لأدعوكم إلى الحق والنجاة ، فإذا لم تقبلوا منى ولم تتبعوني ، فدعوني كفافا ولا تدعوني إلى الشرك.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة الكافرين فكأنما قرأ ربع القرآن وتباعدت منه مردة الشياطين ، وبريء من الشرك ويعافى من الفزع الأكبر» (٢).
__________________
(١) قال محمود : «معناه في المستقبل ، لأن «لا» تنفى المستقبل ، ولا أنتم عابدون ما أعبد : كذلك ، ولا أنا عابد ما عبدتم : أى فيما سلف ... الخ» قال أحمد : هذا الذي قاله خطأ على الأصل والفرع جميعا : أما على أصله القدري ، فانه وان كان مقتضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن قبل البعث على دين نبى قبله ، لاعتقاد القدرية أن ذلك غميزة في منصبه ، ومنفر من اتباعه ، فيستحيل وقوعه للمفسدة ، إلا أنهم يعتقدون أن الناس كلهم متعبدون بمقتضى العقل بوجوب النظر في آيات الله تعالى وأدلة توحيده ومعرفته ، وأن وجوب النظر بالعقل لا بالسمع فتلك عبادة قبل البعث يلزمهم ألا يظنوا به صلى الله عليه وسلم الإخلال بها ، فحينئذ يقتضى أصلهم أنه كان قبل البعث يعبد الله تعالى ، فالزمخشرى حافظ على الوفاء بأصله في عدم اتباعه لنبي سابق ، فأخل بالتفريع على أصله الآخر في وجوب العبادة بالعقل. والحق أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعبد قبل الوحى ويتحنث في غار حراء ، فان كان مجيء قوله أعبد ـ لأن الماضي لم يحصل فيه هذه العبادة المرادة في الآية ـ فيحمل الأمر فيها والله أعلم على مجموع العبادات الخاصة التي لم تعلم إلا بالوحي ، لا على مجرد توحيد الله تعالى ومعرفته ؛ فإن ذلك لم يزل ثابتا له صلى الله عليه وسلم قبل البعث ، والله أعلم. أو يكون مجيئه مضارعا لقصد تصوير عبادته في نفس السامع وتمكينها من فهمه ، كقوله (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) والأصل : فأصبحت ، وإنما عدل عنه للمعنى المذكور ، وهو وجه حسن ، فتأمله ، والله أعلم.
(٢) أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي بسندهم إلى أبى بن كعب. قلت : وصدره رواه الترمذي. حديث أنس رضى الله عنه.