وجدت منه هنة منكرة أن يعرض له بإنكارها عليه ولا يصرح. وأن تحكى له حكاية ملاحظة لحاله إذا تأملها استسمج حال صاحب الحكاية فاستسمج حال نفسه ، وذلك أزجر له لأنه ينصب ذلك مثالا لحاله ومقياسا لشأنه ، فيتصور قبح ما وجد منه بصورة مكشوفة ، مع أنه أصون لما بين الوالد والولد من حجاب الحشمة. فإن قلت : فلم كان ذلك على وجه التحاكم إليه؟ قلت : ليحكم بما حكم به من قوله (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ) حتى يكون محجوجا بحكمه ومعترفا على نفسه بظلمه (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ) ظاهره الاستفهام. ومعناه الدلالة على أنه من الأنباء العجيبة التي حقها أن تشيع ولا تخفى على أحد ، والتشويق إلى استماعه. والخصم : الخصماء ، وهو يقع على الواحد والجمع ، كالضيف. قال الله تعالى (حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) لأنه مصدر في أصله ، تقول : خصمه خصما ، كما تقول : ضافه ضيفا. فإن قلت : هذا جمع. وقوله (خَصْمانِ) تثنية فكيف استقام ذلك؟ قلت : معنى خصمان : فريقان خصمان ، والدليل عليه قراءة من قرأ : خصمان بغى بعضهم على بعض : ونحوه قوله تعالى (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ). فإن قلت : فما تصنع بقوله (إِنَّ هذا أَخِي) وهو دليل على اثنين؟ قلت : هذا قول البعض المراد بقوله بعضنا على بعض. فإن قلت : فقد جاء في الرواية أنه بعث إليه ملكان. قلت : معناه أن التحاكم كان بين ملكين ، ولا يمنع ذلك أن يصحبهما آخرون. فإن قلت : فإذا كان التحاكم بين اثنين كيف سماهم جميعا خصما في قوله (نَبَأُ الْخَصْمِ) و (خَصْمانِ)؟ قلت : لما كان صحب كل واحد من المتحاكمين في صورة الخصم صحت التسمية به. فإن قلت : بم انتصب (إِذْ)؟ قلت : لا يخلو إما أن ينتصب بأتاك ، أو بالنبإ ، أو بمحذوف فلا يسوغ انتصابه بأتاك ، لأن إتيان النبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقع إلا في عهده لا في عهد داود ، ولا بالنبإ ، لأن النبأ الواقع في عهد داود لا يصح إتيانه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإن أردت بالنبإ : القصة في نفسها لم يكن ناصبا ، فبقى أن ينتصب بمحذوف ، وتقديره : وهل أتاك نبأ تحاكم الخصم. ويجوز أن ينتصب بالخصم لما فيه من معنى الفعل. وأما إذ الثانية فبدل من الأولى (تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) تصعدوا سوره ونزلوا إليه. والسور : الحائط المرتفع ونظيره في الأبنية : تسنمه ، إذ علا سنامه ، وتذرّاه : إذا علا ذروته. روى أنّ الله تعالى بعث إليه ملكين في صورة إنسانين ، فطلبا أن يدخلا عليه ، فوجداه في يوم عبادته ، فمنعهما الحرس فتسوّرا عليه المحراب ، فلم يشعر إلا وهما بين يديه جالسان (فَفَزِعَ مِنْهُمْ) قال ابن عباس : إنّ داود عليه السلام جزأ زمانه أربعة أجزاء : يوما للعبادة ، ويوما للقضاء ، ويوما للاشتغال بخواص أموره ، ويوما يجمع بنى إسرائيل فيعظهم ويبكيهم ، فجاءوه في غير يوم القضاء ففزع منهم ، ولأنهم نزلوا عليه من فوق ، وفي يوم الاحتجاب ، والحرس حوله لا يتركون من يدخل عليه (خَصْمانِ)