لو لا أنّ الخلطاء تأباه ، إلا أن يضرب داود الخلطاء ابتداء مثلا لهم ولقصتهم (١). فإن قلت. الملائكة عليهم السلام كيف صح منهم أن يخبروا عن أنفسهم بما لم يتلبسوا منه بقليل ولا كثير ولا هو من شأنهم؟ قلت : هو تصوير للمسألة وفرض لها ، فصوّروها في أنفسهم وكانوا في صورة الأناسى ، كما تقول في تصوير المسائل : زيد له أربعون شاة ، وعمرو له أربعون ، وأنت تشير إليهما ، فخلطاها وحال عليها الحول ، كم يجب فيها؟ وما لزيد وعمرو سبد ولا لبد (٢) وتقول أيضا في تصويرها : لي أربعون شاة وأربعون فخلطناها. وما لكما من الأربعين أربعة ولاربعها فإن قلت : ما وجه قراءة ابن مسعود : ولي نعجة أنثى (٣)؟ قلت : يقال لك امرأة أنثى للحسناء الجميلة. والمعنى : وصفها بالعراقة في لين الأنوثة وفتورها ، وذلك أملح لها وأزيد في تكسرها وتثنيها. ألا ترى إلى وصفهم لها بالكسول والمكسال. وقوله :
__________________
ـ لعمر بن أبى ربيعة. وزهر : عطف على ضمير الفاعل المتصل ، ومجيئه بلا فصل قليل. وتهادى : أصله تتهادى ، حذف منه إحدى التاءين ، وهو صفة زهر. وشبههن بالنعاج الوحشية في حسن المشية وسعة العيون وسوادها. والزهر : جمع زهراء ، أى : بيضاء ، والفلا : القفر الخالي. والتعسف : الميل عن سواء السبيل ، وهو حال من النعاج. ورملا : نصب على نزع الخافض ، أى : تمايلن في رمل. وتنقبت المرأة : لبست النقاب. وحور : جمع حوراء ، أى : صافيات. والمداعج : الحدقات ، من الدعج وهو اتساع سواد العين. والنجل : جمع نجلاء ، أى : واسعات.
(١) قال محمود : «فان قلت : طريقة التمثيل إنما تستعمل على جعل الخطاب من الخطابة ، فان كان من الخطبة فما وجهه؟ قال : الوجه حينئذ أن تجعل النعجة استعارة للمرأة ، كما استعاروا لها الشاة في قوله :
يا شاة ما قنص لمن حلت له
إلا أن لفظ الخلطاء يأباه : اللهم إلا أن يكون ابتداء مثل من داود عليه السلام» قال أحمد : والفرق بين التمثيل والاستعارة : أنه على التمثيل ، يكون الذي سبق إلى فهم داود عليه السلام : أن التحاكم على ظاهره ، وهو التخاصم في النعاج التي هي الهائم ، ثم انتقل بواسطة التنبيه إلى فهم أنه تمثيل لحاله. وعلى الاستعارة يكون فهم عنهما : التحاكم في النساء المعبر عنهن بالنعاج كناية ، ثم استشعر أنه هو المراد بذلك.
(٢) قوله «وما لزيد وعمرو سبد ولا لبد» في الصحاح : ما له سبد ولا لبد ، أى : لا قليل ولا كثير. والسبد : من الشعر ، واللبد : من الصوف. (ع)
(٣) قال محمود : «فان قلت : فما وجه قراءة ابن مسعود : ولي نعجة أنثى. وأجاب بأنه يقال : امرأة أنثى للحسناء الجميلة ، ومعناه : وصفها بالعراقة في لين الأنوثة وفتورها وذلك أملح لها وأزيد في تكسرها وتثنيها. ألا ترى إلى وصفهم إياها بالكسول والمكسال ، كقوله :
فتور القيام قطيع الكلام
قال أحمد : ولكن قوله (وَلِيَ نَعْجَةٌ) إنما أورده على سبيل التقليل لما عنده والتحقير ، ليستجل على خصمه بالبغي لطلبه هذا القليل الحقير وعنده الجم الغفير ، فكيف يليق وصف ما عنده والمراد تقليله بصفة الحسن التي توجب إقامة عذر ما لخصمه ، ولذلك جاءت القراءة المشهورة على الاقتصار على ذكر النعجة ، وتأكيد قلتها بقوله (واحِدَةٌ) فهذا إشكال على قراءة ابن مسعود ، يمكن الجواب عنه بأن القصة الواقعة لما كانت امرأة أوريا الممثلة بالنعجة فيها مشهورة بالحسن ، وصف مثالها في قصة الخصمين بالحسن زيادة في التطبيق ، لتأكيد التنبيه على أنه هو المراد بالتمثيل.