(يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ)(٢٦)
(خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) أى استخلفناك على الملك في الأرض ، كمن يستخلفه بعض السلاطين على بعض البلاد ويملكه عليها. ومنه قولهم : خلفاء الله في أرضه. وجعلناك خليفة ممن كان قبلك من الأنبياء القائمين بالحق. وفيه دليل على أنّ حاله بعد التوبة بقيت على ما كانت عليه لم تتغير (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ) أى بحكم الله تعالى إذ كنت خليفته (وَلا تَتَّبِعِ) هوى النفس في قضائك وغيره مما تتصرف فيه من أسباب الدين والدنيا (فَيُضِلَّكَ) الهوى فيكون سببا لضلالك (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) عن دلائله التي نصبها في العقول ، وعن شرائعه التي شرعها وأوحى بها. و (يَوْمَ الْحِسابِ) متعلق بنسوا ، أى : بنسيانهم يوم الحساب ، أو بقوله لهم ، أى : لهم عذاب يوم القيامة بسبب نسيانهم وهو ضلالهم عن سبيل الله. وعن بعض خلفاء بنى مروان أنه قال لعمر بن عبد العزيز أو للزهري : هل سمعت ما بلغنا؟ قال : وما هو؟ قال : بلغنا أن الخليفة لا يجرى عليه القلم ولا تكتب عليه معصية. فقال : يا أمير المؤمنين ، الخلفاء أفضل أم الأنبياء؟ ثم تلا هذه الآية.
(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ)(٢٧)
(باطِلاً) خلقا باطلا ، لا لغرض صحيح وحكمة بالغة. أو مبطلين عابثين ، كقوله تعالى (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ) وتقديره : ذوى باطل. أو عبثا ، فوضع باطلا موضعه ، كما وضعوا هنيئا موضع المدر ، وهو صفة ، أى ما خلقناهما وما بينهما للعبث واللعب ، ولكن للحق المبين ، وهو أن خلقناها نفوسا (١) أودعناها العقل
__________________
تنزيه داود عن ذنب يبعثه عليه شهوة النساء ، فأخذ الآية على ظاهرها وصرف الذنب إلى العجلة في نسبة الظلم إلى المدعى عليه ، لأن الباعث على ذلك في الغالب إنما هو التهاب الغضب وكراهيته أخف مما يكون الباعث عليه الشهوة والهوى ، ولعل هذا القائل يؤكد رأيه في الآية بقوله تعالى عقبها وصية لداود عليه السلام : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) فما جرت العناية بتوصيته فيما يتعلق بالأحكام إلا والذي صدر منه أولا وبان منه من قبيل ما وقع له في الحكم بين الناس ، وقد التزم المحققون من أئمتنا أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام : داود وغيره ـ منزهون من الوقوع في صغائر الذنوب مبرؤن من ذلك ، والتمسوا المحامل الصحيحة لأمثال هذه القصة ، وهذا هو الحق الأبلج ، والسبيل الأبهج ، إن شاء الله تعالى.
(١) قوله «وهو أن خلقنا نفوسا» عبارة النسفي : وهو أنا خلقنا نفوسا. (ع)