والتمييز ، ومنحناها التمكين ، وأزحنا عللها ثم عرضناها للمنافع العظيمة بالتكليف ، وأعددنا لها عاقبة وجزاء على حسب أعمالهم. و (ذلِكَ) إشارة إلى خلقها باطلا ، والظن : بمعنى المظنون ، أى : خلقها للعبث لا للحكمة هو مظنون الذين كفروا. فإن قلت : إذا كانوا مقرين بأن الله خالق السماوات والأرض وما بينهما بدليل قوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) فبم جعلوا ظانين أنه خلقها للعبث لا للحكمة. قلت : لما كان إنكارهم للبعث والحساب والثواب والعقاب ، مؤديا إلى أن خلقها عبث وباطل ، جعلوا كأنهم يظنون ذلك ويقولونه ، لأنّ الجزاء هو الذي سبقت إليه الحكمة في خلق العالم من رأسها ، فمن جحده فقد جحد الحكمة من أصلها ، ومن جحد الحكمة في خلق العالم فقد سفه الخالق ، وظهر بذلك أنه لا يعرفه ولا يقدره حق قدره ، فكان إقراره بكونه خالقا كلا إقرار.
(أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ)(٢٨)
(أَمْ) منقطعة. ومعنى الاستفهام فيها الإنكار ، والمراد : أنه لو بطل الجزاء كما يقول الكافرون لاستوت عند الله أحوال من أصلح وأفسد ، وأتقى وفجر ، ومن سوّى بينهم كان سفيها ولم يكن حكيما.
(كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ)(٢٩)
وقرئ : مباركا ، وليتدبروا : على الأصل ، ولتدبروا : على الخطاب. وتدبر الآيات : التفكر فيها ، والتأمل الذي يؤدى إلى معرفة ما يدبر ظاهرها من التأويلات الصحيحة والمعاني الحسنة ، لأن من اقتنع بظاهر المتلوّ ، لم يحل منه بكثير طائل ، (١) وكان مثله كمثل من له لقحة درور لا يحلبها ، ومهرة نثور لا يستولدها. وعن الحسن : قد قرأ هذا القرآن عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله : حفظوا حروفه وضيعوا حدوده ، حتى إن أحدهم ليقول : والله لقد قرأت القرآن فما أسقطت منه حرفا ، وقد والله أسقطه كله ، ما يرى للقرآن عليه أثر في خلق ولا عمل ، والله ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده ، والله ما هؤلاء بالحكماء ولا الوزعة ، (٢) لا كثر
__________________
(١) قوله لم يحل منه بكثير طائل» في الصحاح : قولهم «لم يحل منه بطائل» أى : لم يستفد منه كبير فائدة وفيه : اللقح ـ بالكسر ـ : الإبل بأعيانها ، الواحدة : لقوح ، وهي الحلوب ، مثل : فلوص وقلاص : واللقحة : اللقوح ، والجمع لقح مثل قربة قرب ، وفيه : ناقة درور ، أى : كثيرة اللبن. وفيه : النثور ، أى : كثيرة الولد.
(٢) قوله «ولا الوزعة» جمع وازع ، وهو الذي يكف عن الضرر ، والذي يتقدم الصف فيصلحه بالتقديم والتأخير. أفاده الصحاح. (ع)