رؤبة أنّ رجلين من أهل اللغة قصداه ليسألاه عن هذه الكلمة ، فخرج إليهما فقال : أين تصيبان؟ فقالا : هذه طلبتنا ورجعا ، ويقال : أصاب الله بك خيرا (وَالشَّياطِينَ) عطف على الريح (كُلَّ بَنَّاءٍ) بدل من الشياطين (وَآخَرِينَ) عطف على كل داخل في حكم البدل ، وهو بدل الكل من الكل : كانوا يبنون له ما شاء من الأبنية ، ويغوصون له فيستخرجون اللؤلؤ ، وهو أوّل من استخرج الدرّ من البحر ، وكان يقرّن مردة الشياطين بعضهم مع بعض في القيود والسلاسل للتأديب والكف عن الفساد. وعن السدى : كان يجمع أيديهم إلى أعناقهم مغللين في الجوامع (١). والصفد القيد ، وسمى به العطاء لأنه ارتباط للمنعم عليه. ومنه قول علىّ رضى الله عنه : من برّك فقد أسرك ، ومن جفاك فقد أطلقك. ومنه قول القائل : غل يدا مطلقها ، وأرقّ رقبة معتقها. وقال حبيب : إنّ العطاء إسار ، وتبعه من قال :
ومن وجد الإحسان قيدا تقيّدا (٢)
وفرقوا بين الفعلين فقالوا : صفده قيده ، وأصفده أعطاه ، كوعده وأوعده ، أى (هذا) الذي أعطيناك من الملك والمال والبسطة (عَطاؤُنا) بغير حساب ، يعنى : جما كثيرا لا يكاد يقدر على حسبه وحصره (فَامْنُنْ) من المنة وهي العطاء ، أى : فأعط منه ما شئت (أَوْ أَمْسِكْ) مفوّضا إليك التصرف فيه. وفي قراءة ابن مسعود : هذا فامنن أو أمسك عطاؤنا بغير حساب ، أو هذا التسخير عطاؤنا ، فامنن على من شئت من الشياطين بالإطلاق ، وأمسك من شئت منهم في الوثاق بغير حساب ، أى لا حساب عليك في ذلك.
(وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ
__________________
(١) قوله «في الجوامع» في الصحاح «الجامعة» : الغل ، لأنها تجمع اليدين إلى العنق. (ع)
(٢) وقيدت نفسي في ذراك محبة |
|
ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا |
للمتنبي ، يقول : تركت سير الليل وراء ظهري ، أى : بالغت في تركه لمن قل ماله ، لأنه لا زال يبتغيه ، واكتفيت بنعمتك العظمى ، وشبه الآمال التي امتدت إليه وبلغت مناها ، بأفراس منعلة بالذهب على طريق التصريحية والانعال ترشيح. ويجوز أن ذلك كناية عن عظم النعمة ، واستعار التقييد للمنع عن التطلع لغير الممدوح وقصر المدح عليه. ويجوز أنه شبه نفسه بحيوان ، والتقييد : تخييل. والذرا ـ بالفتح ـ : كل ما ستر الشيء ، يقال : أنا في ظل الجبل وفي ذراه ، أو في ظل فلان وفي ذراه ، أى : في كنفه وحماه ، ومحبة : مفعول لأجله ، وشبه الإحسان بالقيد لأنه سبب استملاك النفس.