مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)(٤٤)
(أَيُّوبَ) عطف بيان. و (إِذْ) بدل اشتمال منه (أَنِّي مَسَّنِيَ) بأنى مسنى : حكاية لكلامه الذي ناداه بسببه ، ولو لم يحك لقال بأنه مسه : لأنه غائب. وقرئ (بِنُصْبٍ) بضم النون وفتحها مع سكون الصاد ، وبفتحهما ، وضمهما ، فالنصب والنصب : كالرشد والرشد ، والنصب : على أصل المصدر ، والنصب : تثقيل نصب ، والمعنى واحد ، وهو التعب والمشقة. والعذاب : الألم ، يريد مرضه وما كان يقاسى فيه من أنواع الوصب (١). وقيل : الضرّ في البدن ، والعذاب في ذهاب الأهل والمال فإن قلت : لم نسبه إلى الشيطان ، ولا يجوز أن يسلطه الله على أنبيائه ليقضى من إتعابهم وتعذيبهم وطره ، ولو قدر على ذلك لم يدع صالحا إلا وقد نكبه وأهلكه ، وقد تكرّر في القرآن أنه لا سلطان له إلا الوسوسة فحسب؟ قلت : لما كانت وسوسته إليه وطاعته له فيما وسوس سببا فيما مسه الله به من النصب والعذاب ، نسبه إليه ، وقد راعى الأدب في ذلك حيث لم ينسبه إلى الله في دعائه ، مع أنه فاعله ولا يقدر عليه إلا هو. وقيل : أراد ما كان يوسوس به إليه في مرضه من تعظيم ما نزل به من البلاء ، ويغريه على الكراهة والجزع ، فالتجأ إلى الله تعالى في أن يكفيه ذلك بكشف البلاء ، أو بالتوفيق في دفعه ورده بالصبر الجميل. وروى أنه كان يعوده ثلاثة من المؤمنين ، فارتدّ أحدهم ، فسأل عنه فقيل ألقى إليه الشيطان : إن الله لا يبتلى الأنبياء والصالحين ، وذكر في سبب بلائه أنّ رجلا استغاثه على ظالم فلم يغثه. وقيل : كانت مواشيه في ناحية ملك كافر ، فداهنه ولم يغزه. وقيل : أعجب بكثرة ماله (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) حكاية ما أجيب به أيوب ، أى : اضرب برجلك الأرض. وعن قتادة : هي أرض الجابية (٢) فضربها ، فنبعت عين فقيل (هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ) أى هذا ماء تغتسل به وتشرب منه ، فيبرأ باطنك وظاهرك ، وتنقلب مآبك قلبة (٣). وقيل : نبعت له عينان ، فاغتسل من إحداهما وشرب من الأخرى ، فذهب الداء من ظاهره وباطنه بإذن الله ، وقيل : ضرب برجله اليمنى فنبعت عين حارة فاغتسل منها ، ثم باليسرى فنبعت باردة فشرب منها (رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى) مفعول لهما. والمعنى : أنّ الهبة كانت للرحمة له ولتذكير أولى الألباب ، لأنهم إذا سمعوا بما
__________________
(١) قوله «من أنواع الوصب» في الصحاح «الوصب» : المرض. (ع)
(٢) قوله «هي أرض الجابية» مدينة بالشام كما في الصحاح. (ع)
(٣) قوله «وتنقلب ما بك قلبة» في الصحاح «القلاب» داء يأخذ البعير. وقولهم : ما به قلبة ، أى : ليست به علة. (ع)