فهم يرون الإنسان حرا في مأكله ومشربه وألعابه وشهواته التي لا تسيء إلى الآخرين ... كما يرون الإنسان حرا في أن يعبد الله أو لا يعبده ، ولكن الإسلام لا يؤمن بهذه الحرية للفرد ، بل هو يشرّع للفرد في حياته الخاصة كما يشرّع له في حياته العامة ، ويتدخل في شؤونه الذاتية حتى في أشد الأشياء خصوصية له ... وبذلك يتسع القانون حتى يشمل ذلك كله ، ويتّسع ـ تبعا لذلك ـ تنفيذه حتى يسيطر على ذلك كله. وعلى ضوء هذا ، فإن الاختيار لا يمنح في هذه الدائرة ، بل يمنح في دائرة اختيار الطريق في ما يعتقد وفي ما لا يعتقد ، كما أشرنا إلى ذلك آنفا.
(قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) إن الإسلام هو دين الفطرة في تقريره الإيمان بالله ، وفي ما يأمر به وينهى عنه ، ولذلك فإن الإنسان لا يحتاج في إيمانه بالله وبالإسلام إلا أن ينفتح على الفكرة ويرجع إليها ليلتصق بها ... وهذا ما عبرت عنه بعض الآيات كما في قوله تعالى : (أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [إبراهيم : ١٠] وذلك بأسلوب الاستفهام الإنكاري الذي يوحي بأن الموضوع غير قابل للشك جملة وتفصيلا. أمّا الذين كفروا ، أو عاشوا في أجواء الشك ، فإنهم أغلقوا عيونهم عن النظر ، وآذانهم عن السماع ، وعقولهم عن التفكير (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ) [الأعراف : ١٧٩] ، إن قضية الإيمان والكفر لدى الإنسان هي قضية استعمال أدوات المعرفة التي تفتح قلبه على الحقيقة وعينه على الحياة أو عدم استعمالها ، وليست قضية فكر معقد يحتاج إلى تحليل وتفسير ، تماما كما هي الشمس عند ما تغمض عينيك ، وتبادر إلى إنكارها ، إن ذلك لا يعني وجود إشكال في وجود الشمس ، بل كل ما يعنيه هو وجود مشكلة في طريقة مواجهتك للحقيقة من خلال أدوات المعرفة التي تستخدمها للكشف عنها.
* * *