لدائهم بدوائه تارة ، وتارة مفترشون جباههم وأكفهم وركبهم وأطراف أقدامهم ، تجري دموعهم على خدودهم ، يمجّدون جباراً عظيماً ، ويجأرون إليه ـ جلّ جلاله ـ في فكاك رقابهم.
هذا ليلهم ، وأمّا النهار فحلماء علماء ، بررة أتقياء ، براهم (١) خوف بارئهم ، فهم أمثال القداح (٢) ، يحسبهم الناظر إليهم مرضى وما بالقوم من مرض ، أوقد خولطوا وقد خالط القوم من عظمة ربهم وشدة سلطانه أمر عظيم ، طاشت له قلوبهم ، وذهلت منه عقولهم ، فإذا استقاموا من ذلك بادروا إلى الله تعالى بالأعمال الزاكية ، لا يرضون له بالقليل ، ولا يستكثرون له الجزيل ، فهم لأنفسهم متّهمون ، ومن أعمالهم مشفقون ، إن زكي أحدهم خاف مما يقولون ، وقال : أنا أعلم بنفسي من غيري ، وربي أعلم بي ، اللهم لا تؤاخذني بما يقولون ، فاجعلني خيراً مما يظنون ، واغفر لي مالا يعلمون ، فإنك علام الغيوب وساتر العيوب.
هذا ، ومن علامة أحدهم أن ترى له قوة في دين ، وحزماً في لين ، وإيمانا في يقين ، وحرصاً على علم ، وفهماً في فقه ، وعلماً في حكم ، وكيساً في رفق ، وقصداً في غنى ، وتجملاً في فاقة ، وصبراً في شدة ، وخشوعاً في عبادة ، ورحمة للمجهود ، وإعطاءَ في حق ، ورفقاً في كسب ، وطلباً في حلال ، وتعفّفاَ في طمع ، وطمعاً في غير طبع ـ أي دنس ـ ونشاطاً في هدى ، واعتصاماَ في شهوة ، وبراً في استقامة ، لا يغرّه من جهله ، ولا يدع أحصاء ما عمله ، يستبطئ نفسه في العمل ، وهومن صالح عمله على وجل ، يصبح وشغله الذكر ، ويمسي وهمّه الفكر ، يبيت حذراً من سنة الغفلة ، ويصبح فرحاً لما أصابه من الفضل والرحمة ، إن استصعبت عليه نفسه فيما يكره ، لم يعطها سؤلها فيما إليه تشره (٣) ، ورغبته فيما يبقى ، وزهادته فيما يفنى ، قد قرن العلم بالعمل ، والعمل بالحلم ، يظل دائماً نشاطه ، بعيداَ كسله ، قريباً أمله ، قليلاً زلَله ، متوقعاً أجله ، خاشعاً قلبه ، ذاكراً ربه ، قانعةً نفسه ، غارباً جهله ، محرزاً دينه ، ميتاَ داؤه كاظماً غيظه ، صافياً خلقه ، امناً منه جاره ، سهلا امره ، معدوماً كبره ، ثبتاً صبره ، كثيراً ذكره ،
__________________
١ ـ برى السهم : نحته. « القاموس المحيط ـ بري ـ ٤ : ٣٠٣ ».
٢ ـ القداح : واحدها قِدح وهو السهم ، كناية عن ضعف أجسامهم ونحولها « القاموس المحيط ـ قدح ـ ٢٤١ : ١ ».
٣ ـ الشراهة : غلبة الحرص « القاموس المحيط ـ شره ـ ٤ : ٢٨٦ ».