والخيرات وهو ميزان أهل هذا الزّمان في الدّنيا (أَنْزَلْناهُ) قد مضى انّ الإتيان بالايتاء في وصف كتاب موسى (ع) وبالانزال والتّنزيل في وصف كتاب محمّد (ص) تشريف للقرآن (أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) بعد وضوح صدقه وحجّته وبعد كونه ذا نظير في السّابقين (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ) ما به رشده من الحجج والبراهين أو الرّشد اللّائق بحاله من الاهتداء الى كمالاته (مِنْ قَبْلُ) اى من قبل القرآن أو من قبل موسى (وَكُنَّا بِهِ) اى برشده أو بإبراهيم (عالِمِينَ إِذْ قالَ) ظرف لآتينا أو لعالمين (لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ) جمع التّمثال بالكسر وهو الصّورة والأغلب استعماله فيما لا روح له (الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ) اللّام بمعنى على أو للتّقوية فانّ العكوف يتعدّى بنفسه ويكون بمعنى الحبس ، وبعلى ويكون بمعنى الإقبال ، ويجوز ان يتضمّن معنى العبادة فيكون اللّام للتّقوية أيضا (قالُوا) في الجواب مثل أهل كلّ زمان (وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ) فانّ النّاس لغلبة المدارك الحسّيّة عليهم لا يتجاوزون عن المحسوس ولا يتأمّلون في المحسوس وفي صحّته وبطلانه خصوصا فيما رأوه من اوّل التّمييز من الآباء والامّهات والكبار من القوم ويتلقّونه بالقبول ويتمسّكون به من غير حجّة ولذلك اكتفوا في الجواب بذكر تقليد الآباء من غير إبراز حجّة فانّ السّؤال وان كان بلفظ ما الدّالّ على طلب الحقيقة لكنّ المقصود كان انكار عبادتها وينبغي ان يجيبوا بما يصحّح العبادة لها.
اعلم ، انّه كما نقل كان بين أوصياء آدم وشيث وبين نوح رجال صالحون كان النّاس يأنسون بهم فلمّا ارتحلوا دخل النّاس حزن شديد فصنع بعض الصّلحاء لأنس النّاس ورفع حزنهم تماثيل أولئك الصّلحاء وكانوا يزورونها ويأنسون بها ، فلمّا تمادى الزّمان وارتحل الآباء وبقي التّماثيل للأولاد وأولاد الأولاد جاء الشّيطان إليهم وقال : كان آباؤكم يعبدون هذه التّماثيل واغترّوا بها وبعبادتها ، وقيل : كان تلك التّماثيل تماثيل الكواكب كانوا يزورونها ويتوسّلون بها في حوائجهم كما انّ شريعة العجم المنسوبة الى مهاباد كانت على ذلك ، (قالَ) إبراهيم (ع) ردّا لهم في عبادتهم وفي تقليدهم (لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ) يعنى تصدق أم تمزح؟ ـ (قالَ) بعد انكار ربوبيّتها لحصر الرّبوبيّة في الله (بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَ) ادّى الدّعوى بحيث يدلّ عقد الحمل على صحّتها ، وتوصيف المحمول بالّذى فطرهنّ يدلّ على صحّة عقد الحمل (وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) يعنى ليس قولي هذا عن مزاح ولعب بل عن جدّ ومواطاة قلب (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) اى لأفعلنّ بها في خفية ما لا يلائمها (بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) حال مؤكّدة أو مقيّدة باعتبار انّ التّولية بمعنى الإقبال والأدبار ، وهكذا التّولّى ، قيل : انّما قال ذلك في السّرّ من أصحاب نمرود ولم يسمع ذلك الّا رجل منهم فأفشاه ، وقيل : كان موعد عيد لهم فكرهوا خروج إبراهيم (ع) معهم ووكّلوه ببيت الأصنام ، أو انّه تمارض كما في الآية وتخلّف عنهم فخرجوا صغيرهم وكبيرهم الى عيد لهم فدخل بيت الأصنام وأخذ القدوم وكسر الأصنام (فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً) الجذاذ بتثليث الجيم اسم من الجذّ بمعنى القطع والاستيصال وقرئ هاهنا بالضّمّ والكسر (إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ) في الخلقة أو في التّعظيم وعلّق الفاس في عنقه وخرج (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ) اى الى إبراهيم أو الى الكبير (يَرْجِعُونَ) فيسألون إبراهيم عن حال الأصنام وكسرهنّ ولينبّههم على جهلهم بذلك أو يسألون الكبير فيتنبّهون انّه ليس قابلا للسّؤال فضلا عن العبادة (قالُوا) جواب