يدعوه رغبا ، وبعضهم يدعوه رهبا ، وان يراد انّهم يدعونه في وقت رغبا وفي وقت رهبا ، وانّهم يدعونه جامعين للوصفين وهذا هو المراد هاهنا فانّ الكامل يكون دائما بين الخوف والرّجاء والرّهبة والرّغبة.
اعلم ، انّ الإنسان بل مطلق الحيوان من اوّل استقرار نطفته ومادّة وجوده في مقرّها واقع بين قوّة قبول الفناء والبقاء والاستنزال والاستكمال والنّقصان والزّيادة ، وكلّ موجود بفطرة وجوده راغب في بقائه واستكماله وازدياده هارب من فنائه واستنزاله ونقصانه ، وإذا كان الموجود شاعرا بالشّعور البسيط كأكثر أنواع الحيوان أو بالشّعور التّركيبىّ كافراد الإنسان كان بحسب شعوره أيضا حين عدم الغفلة هاربا عن منافياته ، راغبا في ملائماته ، والكامل هو الّذى لم يكن غافلا عن منافياته وملائماته ، ومن لم يكن غافلا عن ذلك المذكور كان دائما في الرّهب والرّغب والهرب والطّلب والخوف والرّجاء والخيفة والتّضرّع والفرار والالتجاء والتّوبة والانابة ، والتّبرّى والتّولّى ، وقد يصير الإنسان غافلا بحسب الشّعور التّركيبىّ عن وجوده وكمال وجوده ونقصانه وقد يكون مغترّا وقد يكون آئسا والثّلاثة مذمومة فانّ الممدوح هو السّير والسّلوك بين الخوف والرّجاء والكمال هو استواء الخوف والرّجاء بحيث لا يزيد أحدهما على الآخر كما في الخبر (وَكانُوا لَنا) لا لغيرنا (خاشِعِينَ) قد مضى معنى الخشوع ، والفرق بينه وبين الخضوع والتّواضع في سورة البقرة عند قوله تعالى : (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ)(وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) عطف أو بتقدير فعل كسوابقه وهي مريم (ع) كانت حفظت نفسها من ان ينظر الى عوراتها ومن ان يتصرّف فيها بالحلال أو الحرام (فَنَفَخْنا فِيها) اى في الّتى أحصنت فرجها بان نفخ رسولنا الّذى هو بمنزلة أنفسنا في جيب مدرعتها كما في الخبر بعضا (مِنْ رُوحِنا) الّتى هي ربّ نوع الإنسان واضافتها الى نفسه تعالى لتشريفها أو منفوخا ناشئا من روحنا (وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً) دالّة على علمنا وقدرتنا وحكمتنا بان حملت من غير فحل ومن دون زوال بكارتها وتكامل الجنين في رحمها في ساعة واحدة مثل كمال الجنين في تسعة أشهر ، وتكلّم ابنها وشهادته على طهارة أمّه وعدم تولّده من السّفاح في اوّل تولّده وشهادته على نبوّته في ذلك الزّمان (لِلْعالَمِينَ) لعدم حاجتها الى عقل أو تذكّر أو تأمّل ونظر أو تسليم وانقياد أو تطهير أو لبّ أو اعتبار (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ما قلت لهؤلاء الأنبياء أو العباد بعد بعث الأنبياء؟ ـ فقال قلت لهم : انّ هذه أمّتكم ، أو حال عن الأفعال السّابقة على سبيل التّنازع وكلا الوجهين بتقدير القول اى قلنا للأنبياء بعد قبول أمرهم واجتماع جمع على شريعتهم : هذه أمّتكم ومؤتمّون بكم ، أو قلنا للخلق أو لمن اتّبعهم : هؤلاء الأنبياء مأموموكم ، أو قلنا للأنبياء أو للاتباع : هذه الطّريقة الّتى هي التّوحيد والتّسليم طريقتكم ، أو هو جواب لسؤال مقدّر أو حال بتقدير القول ، وخطاب للحاضرين في زمان محمّد (ص) والمعنى انّ هذه الجماعة من الأنبياء المذكورين ائمّتكم واسوتكم ، أو هذه الطّريقة طريقتكم (أُمَّةً واحِدَةً) جماعة واحدة من حيث الطّريقة أو طريقة واحدة غير متفرّقة (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ وَتَقَطَّعُوا) عطف على القول المقدّر اى قلنا انّ هذه أمّتكم أمّة واحدة وتقطّعوا (أَمْرَهُمْ) اى امر دينهم أو امر إمامتهم بان جعل كلّ لنفسه دينا وطريقا أو إماما ومقتدى ، أو امر اتباعهم بان جعل كلّ منهم اتباعهم لأهوية عديدة (بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ) جواب لسؤال مقدّر ووعد ووعيد كأنّه قيل : ما يصير حالهم؟ ـ قال : كلّ إلينا راجعون أو حال مفيدة لهذا المعنى يعنى رجوع الكلّ إلينا فنجازيهم على حسب أمرهم وطريقهم ، وصيغة تقطّعوا للمبالغة في الفعل ، وبينهم ظرف لغو متعلّق بتقطّعوا ، أو مستقرّ حال من أمرهم والمعنى فرّقوا امر دينهم أو امر إمامتهم أو اتّباعهم بينهم (فَمَنْ يَعْمَلْ)