وقوله : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) ينبغي لكل داع أن يدعو لنفسه ولوالديه ولذريته ، ثم ذكر أنه افتتن بالأصنام خلائق من الناس ، وأنه تبرأ ممن عبدها ورد أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم ، كقول عيسى عليهالسلام (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [المائدة : ١١٨] وليس فيه أكثر من الرد إلى مشيئة الله تعالى لا تجويز وقوع ذلك.
وقال عبد الله بن وهب : حدثنا عمرو بن الحارث أن بكر بن سوادة حدثه عن عبد الرحمن بن جرير ، عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم تلا قول إبراهيم عليهالسلام (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) الآية ، وقول عيسى عليهالسلام (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) [المائدة : ١١٨] الآية ، ثم رفع يديه ثم قال : «اللهم ، أمتي ، اللهم أمتي ، اللهم أمتي» وبكى فقال الله : اذهب يا جبريل إلى محمد ، وربك أعلم ، وسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليهالسلام فسأله ، فأخبره رسول اللهصلىاللهعليهوسلم ما قال ، فقال الله : اذهب إلى محمد فقل له : إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك (١).
(رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (٣٧)
وهذا يدل على أن هذا دعاء ثان بعد الدعاء الأول الذي دعا به عند ما ولى عن هاجر وولدها ، وذلك قبل بناء البيت ، وهذا كان بعد بنائه تأكيدا ورغبة إلى الله عزوجل ، ولهذا قال : (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ). وقوله : (رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) قال ابن جرير (٢) : هو متعلق بقوله (الْمُحَرَّمِ) أي إنما جعلته محرما ليتمكن أهله من إقامة الصلاة عنده.
(فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وغيره: لو قال أفئدة الناس لازدحم عليه فارس والروم واليهود والنصارى والناس كلهم ، ولكن قال : (مِنَ النَّاسِ) فاختص به المسلمون وقوله : (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ) أي ليكون ذلك عونا لهم على طاعتك ، وكما أنه واد غير ذي زرع فاجعل له ثمارا يأكلونها ، وقد استجاب الله ذلك كما قال : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا) [القصص : ٥٧] وهذا من لطفه تعالى وكرمه ورحمته وبركته أنه ليس في البلد الحرام مكة شجرة مثمرة وهي تجبى إليها ثمرات ما حولها استجابة لدعاء الخليل عليهالسلام.
(رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٣٨) الْحَمْدُ لِلَّهِ
__________________
(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤٦١.
(٢) تفسير الطبري ٧ / ٤٦٤.