يذكر تعالى خلقه السماء في ارتفاعها وما زينها به من الكواكب الثوابت والسيارات ، لمن تأمل وكرر النظر فيما يرى من العجائب والآيات الباهرات ، ما يحار نظره فيه ، وبهذا قال مجاهد وقتادة : البروج هاهنا هي الكواكب. (قلت) : وهذا كقوله تبارك وتعالى (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً) [الفرقان : ٦١] الآية. ومنهم من قال : البروج هي منازل الشمس والقمر. وقال عطية العوفي : البروج هاهنا هي قصور الحرس. وجعل الشهب حرسا لها من مردة الشياطين لئلا يسمعوا إلى الملأ الأعلى ، فمن تمرد وتقدم منهم لاستراق السمع جاءه شهاب مبين فأتلفه ، فربما يكون قد ألقى الكلمة التي سمعها قبل أن يدركه الشهاب إلى الذي هو دونه فيأخذها الآخر ويأتي بها إلى وليه ، كما جاء مصرحا به في الصحيح.
كما قال البخاري (١) في تفسير هذه الآية : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان عن عمرو عن عكرمة ، عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان» قال علي وقال غيره صفوان ينفذهم ذلك ، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم؟ قالوا : للذي قال الحق وهو العلي الكبير ، فيسمعها مسترقو السمع ، ومسترقو السمع هكذا واحد فوق آخر ، ووصف سفيان بيده ، وفرج بين أصابع يده اليمنى ، نصبها بعضها فوق بعض ، فربما أدرك الشهاب المستمع قبل أن يرمي بها إلى صاحبه فيحرقه ، وربما لم يدركه حتى يرمي بها إلى الذي يليه إلى الذي هو أسفل منه حتى يلقوها إلى الأرض ، وربما قال سفيان : حتى تنتهي إلى الأرض فتلقى على فم الساحر أو الكاهن فيكذب معها مائة كذبة فيصدق ، فيقولون : ألم يخبرنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا ، فوجدناه حقا للكلمة التي سمعت من السماء.
ثم ذكر تعالى خلقه الأرض ومده إياها وتوسيعها وبسطها ، وما جعل فيها من الجبال الرواسي ، والأودية والأراضي والرمال ، وما أنبت فيها من الزروع والثمار المتناسبة.
وقال ابن عباس (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) أي معلوم ، وكذا قال سعيد بن جبير وعكرمة وأبو مالك ومجاهد والحكم بن عتيبة والحسن بن محمد وأبو صالح وقتادة ، ومنهم من يقول : مقدر بقدر. وقال ابن زيد : من كل شيء يوزن ويقدر بقدر ، وقال ابن زيد : ما يزنه أهل الأسواق. وقوله : (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) يذكر تعالى أنه صرفهم في الأرض في صنوف الأسباب والمعايش وهي جمع معيشة. وقوله : (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) قال مجاهد : هي الدواب والأنعام.
__________________
(١) كتاب التفسير ، تفسير سورة ١٥ ، باب ١ ، وتفسير سورة ٣٤ ، باب ١.