ولم يقف الأمر عند ذلك ، بل تبعه خلاف مرير ودقيق بين أصحاب كل مذهب من المذاهب المتقدمة الذكر أدى إلى انقسامها إلى عشرات الأقسام كل قسم يكفر الآخر أو يضلله. (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ).
يقول العلامة ابن قيم الجوزية ـ رحمهالله ـ واصفا ذلك كله «وقد سلك جماهير العقلاء في هذا الباب في كل واد ، وأخذوا في كل طريق ، وتولجوا كلّ مضيق ، وركبوا كل صعب وذلول ، وقصدوا الوصول إلى معرفته ، والوقوف على حقيقته ، وتكلّمت فيه الأمم قديما وحديثا ، وساروا للوصول إلى مغزاه سيرا حثيثا ، وخاضت فيه الفرق على تباينها واختلافها ، وصنّف فيه المصنفون الكتب على تنوع أصنافها. فلا أحد إلّا وهو يحدّث نفسه بهذا الشأن ، ويطلب الوصول فيه إلى حقيقة العرفان ، فتراه إما مترددا فيه مع نفسه ، أو مناظرا لبني جنسه ، وكل قد اختار لنفسه قولا لا يعتقد الصواب في سواه ، ولا يرتضي إلا إياه. وكلهم ـ إلّا من تمسك بالوحي ـ عن طريق الصواب مردود ، وباب الهدى في وجهه مسدود ، تحسّى علما غير طائل ، وارتوى من ماء آسن ، قد طاف على أبواب الأفكار ، ففاز بأخسّ الآراء والمطالب ، فرح بما عنده من العلم الذي لا يسمن ولا يغني من جوع ، وقدّم آراء من أحسن به الظنّ على الوحي المنزل المشروع ، والنصّ المرفوع ، حيران يأتم بكل حيران ، يحسب كلّ سراب شرابا ، فهو طول عمره ظمآن ، ينادى إلى الصواب من مكان بعيد ، أقبل إلى الهدى ، فلا يستجيب إلى يوم الوعيد ، قد فرح بما عنده من الضلال ، وقنع بأنواع الباطل وأصناف المحال ، منعه الكفر الذي اعتقده هدى وما هو ببالغه عن الهداة المهتدين ، ولسان حاله أو قاله يقول : (أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) (١) ولمّا كان الكلام في هذا الباب نفيا وإثباتا موقوفا على الخبر على أسماء الله وصفاته وأفعاله وخلقه وأمره ، فأسعد الناس بالصواب فيه من تلقى ذلك من مشكاة الوحي المبين
__________________
(١) سورة الأنعام ، الآية رقم (٥٣).