إفضاء الظلم إلى حصول الألم والغم قريب قوي كامل ، فلا جرم نجد النفرة عن الظلم أعظم من النفرة عن الكذب وعن البعث. وأما النفرة عن الكذب ، فالسبب فيه : أن من سمع خبرا كاذبا ، فقد يعتقد من ذلك الخبر أمرا من الأمور ، وربما بنى على ذلك الاعتقاد أشياء كثيرة، فإذا ظهر له أن ذلك الخبر كان كاذبا ، فحينئذ تضيع كل الأعمال التي بناها عليه ، وتبقى المشاق التي تحملها في تلك الأعمال خالية عن المنافع الجائزة ، ويحصل الغم في القلب بهذا السبب ، فلأجل كون الكذب مفضيا إلى حصول الألم والغم الخاليين عن الجائز ، كان الطبع ينفر عنه ، ولما كان إفضاء الظلم إلى الألم والغم أقوى وأقرب من إفضاء الكذب إليهما ، لا جرم كان قبح الظلم في الطبائع والعقول أقوى من قبح الكذب.
وأما قبح العبث فالسبب فيه : أن الإنسان خلق محتاجا ، فوجب عليه صرف العلم إلى تحصيل ما يدفع أنواع الحاجات عنه ، فإذا اشتغل بالعبث فقد فوت على نفسه صرف العمر إلى تحصيل الأشياء النافعة ، وكان العبث مفضيا إلى الضرر ، من هذا الوجه ، فلا جرم حكم العقل عليه بالقبح ، ولما كان إفضاء العبث إلى حصول الألم والغم أبعد وأضعف ، من إفضاء الظلم إليها ؛ لا جرم كان قبح العبث أقل في العقول من قبح الظلم والكذب.
فإن قالوا : أليس أن الظالم ينتفع بظلمه ، والكاذب قد ينتفع بكذبه ، مع أن عقله يحكم بقبح الظلم وقبح الكذب؟ قلنا : إن الظالم يعلم أنه لو أفتى بحسن الظلم لكان قد حكم بأن لغيره أن يظلمه ، وحينئذ لا يبقى آمنا على روحه وما له وأولاده ، فلما علم أن الحكم بحسن الظلم يوجب فتح باب الآلام والغموم عليه ، فلا جرم حكم بقبح الظلم وكذا القول في جانب الكذب.
وأما الحكم بحسن الإحسان ، وإنقاذ الضعيف من البلاء ، فهذا إنما كان حسنا ، لأنه سبب لفتح باب المنافع والخيرات ، ولما كانت اللذة والسرور مطلوبين بالذات ، وكان الإحسان مفضيا إليهما ، والمفضي إلى المحبوب