ولقد أوردنا حديثا رواه البخاري عن عائشة في سياق سورة العلق عن أول نزول الوحي على النبي صلىاللهعليهوسلم ، وفيه صورة من صور الوحي. ونورد هنا ثلاثة أحاديث روى أحدها البخاري ومسلم والترمذي وروى ثانيها وثالثها مسلم ، فيها صور أخرى لتتم بذلك وبما جاء في الأحاديث الصحيحة ، صورة الوحي الرباني بما أمكن استلهامه ، ونرجو أن يكون فيه الصواب. ولقد روي الأول عن عائشة وجاء فيه : «إنّ الحارث بن هشام سأل النبي صلىاللهعليهوسلم كيف يأتيك الوحي؟ فقال : أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشدّه عليّ فينفصم عني وقد وعيت عنه ما قال. وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلّمني فأعي ما يقول. قالت عائشة : ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فينفصم عنه وإن جبينه ليتفصّد عرقا». وروي الثاني والثالث عن عبادة بن الصامت ، وجاء في الثاني : «كان النبي صلىاللهعليهوسلم إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك وتربّد وجهه». وجاء في الثالث : «كان النبي صلىاللهعليهوسلم إذا نزل عليه الوحي نكس رأسه ونكس أصحابه رؤوسهم فلما انجلى عنه رفع رأسه» (١).
هذا ، وفيما احتوته الآية الثانية من تقرير كون النبي صلىاللهعليهوسلم لم يكن يدري ما الكتاب ولا الإيمان قبل الاتصال الرباني به صراحة على أن النبي صلىاللهعليهوسلم لم يكن يعرف من أمر نبوته شيئا إلّا بعد اتصال وحي الله به. وهذا نفي قاطع قرآني للروايات المتداولة في كتب الموالد والشمائل وهذا لا ينفي أن النبي صلىاللهعليهوسلم كان يفكر في آلاء الله وملكوته وتضطرب نفسه في سبيل تحري حقيقة الله وملّة إبراهيم الحنيفية وطريق الدين القويم الذي يجب أن يسلكه. وتنقبض نفسه مما كان يراه من سخف عقائد قومه وتقليدهم وشركهم كما لا ينفي أن يكون قد انتهى إلى الإيمان بالله وحده ربّا للعالمين يجب الاتجاه إليه وحده وعبادته وحده والاستعانة به وحده ونبذ ما عداه قبل نزول الوحي عليه.
ولقد كان هذا حقا ، وهو ما كان يحمله على اعتكافاته الروحية في غار حراء
__________________
(١) انظر الأحاديث الثلاثة في التاج ج ٣ ص ٢٢٥.