والمعنى : لقد علمت ـ أيها العاقل ـ ورأيت بعينيك ، أن الله ـ تعالى ـ يسوق بقدرته السحاب الذي في الجو ، سوقا رفيقا إلى حيث يريد.
(ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) أى : يسوق ـ سبحانه ـ السحاب سوقا هادئا سهلا. ثم بعد ذلك يصل بعضه ببعض ، ويجمع بعضه مع بعض ، ثم بعد ذلك (يَجْعَلُهُ رُكاماً) أى : متراكما بعضه فوق بعض. يقال ركم فلان الشيء يركمه ركما ، إذا جمعه ، وألقى بعضه على بعض ، ومنه : الرمل المتراكم ، أى : المجتمع.
وهذا الذي حكاه القرآن من سوق الله ـ تعالى ـ للسحب ثم تجميعها ، ثم تحويلها إلى قطع ضخمة متراكمة متكاثفة كقطع الجبال ، يراه الراكب للطائرات بوضوح وتسليم بقدرة الله ـ تعالى ـ ، الذي أحسن كل شيء خلقه.
وقوله ـ سبحانه ـ : (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) بيان لما يترتب على هذا السوق الرفيق ، والتجمع الدقيق من آثار.
والودق : المطر. وهو في الأصل مصدر ودق السحاب يدق ودقا ، إذا نزل منه المطر. والخلال : جمع خلل ـ كجبال وجبل ـ والمراد بها الفتوق والشقوق.
قال القرطبي : في «الودق» قولان : أحدهما : أنه البرق .. والثاني : أنه المطر. وهو قول الجمهور يقال : ودقت السحابة فهي وادقة. وودق المطر يدق ودقا. أى : قطر (١).
أى : يسوق الله ـ تعالى ـ السحاب إلى حيث يشاء بقدرته ، ثم يؤلف بينه ، ثم يجعله متراكما بعضه فوق بعض ، فترى ـ أيها العاقل ـ المطر يخرج من فتوق هذا السحاب المتراكم ومن فروجه ، تارة بشدة وعنف ، وتارة بهدوء ورفق.
وقوله ـ تعالى ـ : (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ ، فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ. وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ.). بيان لمظهر آخر من مظاهر قدرته ـ سبحانه ـ.
أى : وينزل ـ سبحانه ـ من جهة السماء قطعا من السحاب كأنها القطع من الجبال في عظمها وضخامتها ، «فيها من برد» أى : في تلك القطع من السحاب الكثير من البرد ، وهو شيء ينزل من السحاب يشبه الحصى ، ويسمى حب الغمام : وحب المزن.
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما الفرق بين «من» الأولى ، والثانية ، والثالثة في قوله (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ)؟.
__________________
(١) تفسير القرطبي ج ١٢ ص ٢٨٩.