قلت الأولى لابتداء الغاية ، والثانية للتبعيض ، والثالثة للبيان ، أو الأوليان للابتداء. والآخرة للتبعيض.
فإن قلت : ما معنى «من جبال فيها من برد»؟ قلت : فيه معنيان : أحدهما : أن يخلق الله في السماء جبال برد. كما في الأرض جبال حجر ، والثاني : أن يريد الكثرة بذكر الجبال ، كما يقال : فلان يملك جبالا من ذهب (١).
وقوله ـ تعالى ـ : (فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ) أى : فيصيب بالذي ينزله من هذا البرد من يشاء إصابته من عباده ، ويصرفه عمن يشاء صرفه عنهم ، إذ الإصابة والصرف بمقتضى حكمته وإرادته.
ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بقوله : (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ). والسنا : شدة الضوء. يقال : سنا الشيء يسنو سنا ، إذا أضاء.
أى : يكاد ضوء برق السحاب الموصوف بما مر من الإزجاء والتأليف والتراكم .. يخطف الأبصار من شدة إضاءته ، وزيادة لمعانه وسرعة توهجه.
وبعد أن ساق ـ سبحانه ـ هذا الدليل العلوي على وحدانيته وقدرته. أتبعه بدليل زمنى يحسه الناس ويشاهدونه في حياتهم فقال : (يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) أى : يعاقب بينهما فيأتى بهذا ، ويذهب بذاك ، وينقص أحدهما ويزيد في الآخر ، ويجعل أولهما وقتا لحلول نعمه والثاني لنزول نقمه ، أو العكس ، فهو ـ سبحانه ـ صاحبهما والمتصرف فيها «إن في ذلك» التقليب والإزجاء والتأليف ، وغير ذلك من مظاهر قدرته المبثوثة في الآفاق «لآيات» عظيمة «لأولى الأبصار» التي تبصر قدرة الله ـ تعالى ـ وتعتبر بها ، فتخلص له العبادة والطاعة.
ثم ساق ـ سبحانه ـ دليلا ثالثا من واقع خلق كل دابة ، وبديع صنعه فيما خلقه فقال : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ ..).
والدابة : اسم لكل حيوان ذي روح ، سواء أكان من العقلاء أم من غيرهم. وهذا اللفظ مأخوذ من الدبيب ، بمعنى المشي الخفيف.
وتطلق الدابة في العرف على ذوات الأربع ، والمراد بها هنا ما هو أعم من ذلك.
قال بعض العلماء : «وهذه الحقيقة الضخمة التي يعرضها القرآن بهذه البساطة ، حقيقة أن كل دابة خلقت من ماء ، قد تعنى وحدة العنصر الأساسى في تركيب الأحياء جميعا ، وهو
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٢٤٦.