والجواب : هذا استفهام على سبيل التقريع للمشركين ، كما قال ـ سبحانه ـ لعيسى : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) ولأن أولئك المعبودين لما برءوا أنفسهم وأحالوا ذلك الضلال عليهم ، صار تبرّؤ المعبودين عنهم أشد في حسرتهم وحيرتهم (١).
وقال ـ سبحانه ـ (أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ) ولم يقل. ضلوا عن السبيل ، للإشعار بأنهم قد بلغوا في الضلال أقصاه ومنتهاه.
ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما أجاب به المعبودون فقال : (قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً).
أى قال المعبودون لخالقهم ـ عزوجل ـ : «سبحانك» أى : ننزهك تنزيها تاما عن الشركاء وعن كل ما لا يليق بجلالك وعظمتك ، وليس للخلائق جميعا أن يعبدوا أحدا سواك. ولا يليق بنا نحن أو هم أن نعبد غيرك ، وأنت يا مولانا الذي أسبغت عليهم وعلى آبائهم الكثير من نعمك. «حتى نسوا الذكر» أى : حتى تركوا ما أنزلته عليهم على ألسنة رسلك من الدعوة إلى عبادتك وحدك لا شريك لك «وكانوا» بسبب ذلك «قوما بورا» أى : هلكى ، جمع بائر من البوار وهو الهلاك.
قال القرطبي : وقوله (بُوراً) أى : هلكى قاله ابن عباس .. وقال الحسن «بورا» أى : لا خير فيهم ، مأخوذ من بوار الأرض ، وهو تعطيلها عن الزرع فلا يكون فيها خير. وقال شهر بن حوشب : البوار : الفساد والكساد ، من قولهم : بارت السلعة إذا كسدت كساد الفساد .. وهو اسم مصدر يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث (٢).
وهكذا ، يتبرأ المعبودون من ضلال عابديهم ، ويوبخونهم على جحودهم لنعم الله ـ تعالى ـ وعلى عبادتهم لغيره. ويعترفون لخالقهم ـ عزوجل ـ بأنه لا معبود بحق سواه.
وهنا يوجه ـ سبحانه ـ خطابه إلى هؤلاء العابدين الجهلاء الكاذبين فيقول : (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً ..).
أى : قال الله ـ تعالى ـ لهؤلاء الكافرين على سبيل التقريع والتبكيت : والآن لقد رأيتم تكذيب من عبدتموهم لكم ، وقد حق عليكم العذاب بسبب كفركم وكذبكم ، وصرتم لا تملكون له «صرفا» أى : دفعا بأية صورة من الصور. وأصل الصرف : رد الشيء من حالة إلى حالة
__________________
(١) تفسير الفخر الرازي ج ٦ ص ٣٢٥.
(٢) تفسير القرطبي ج ١٣ ص ١١.