معها عن الإيمان ، والأعناق جمع عنق. وقد تطلق على وجوه الناس وزعمائهم تقول : جاءني عنق من الناس : أى جماعة منهم أو من رؤسائهم والمقدمين فيهم.
والمعنى : لا تحزن يا محمد لعدم إيمان كفار مكة بك ، فإننا إن نشأ إيمانهم ، ننزل عليهم آية ملجئة لهم إلى الإيمان. تجعلهم ينقادون له ، ويدخلون فيه دخولا ملزما لهم ، ولكنا لا نفعل ذلك ، لأن حكمتنا قد اقتضت أن يكون دخول الناس في الإيمان عن طريق الاختيار والرغبة ، وليس عن طريق الإلجاء والقسر.
وصور ـ سبحانه ـ هذه الآية بتلك الصورة الحسية (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) ، للإشعار بأن هذه الآية لو أراد ـ سبحانه ـ إنزالها لجعلتهم يخضعون خضوعا تاما لها ، حتى لكأن أعناقهم على هيئة من الخضوع والذلة لا تملك معها الارتفاع أو الحركة.
قال صاحب الكشاف : «فإن قلت : كيف صح مجيء خاضعين خبرا عن الأعناق؟ قلت : أصل الكلام : فظلوا لها خاضعين. فأقحمت الأعناق لبيان موضع الخضوع ، وترك الكلام على أصله. كقوله : ذهبت أهل اليمامة ، كأن الأهل غير مذكور. أو لما وصفت بالخضوع الذي هو للعقلاء ، قيل : خاضعين .. وقيل أعناق الناس : رؤساؤهم ومقدموهم شبهوا بالأعناق كما قيل لهم : هم الرءوس والنواصي والصدور ... وقيل : جماعات الناس ..» (١).
ثم بين ـ سبحانه ـ ما عليه هؤلاء الكافرون من صلف وجحود فقال : (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ).
أى : ولقد بلغ الجحود والجهل بهؤلاء الكافرين ، أنهم كلما جاءهم قرآن محدث تنزيله على نبيهم صلىاللهعليهوسلم ومتجدد نزوله عليه صلىاللهعليهوسلم أعرضوا عنه إعراضا تاما.
وعبر عن إعراضهم بصيغة النفي والاستثناء التي هي أقوى أدوات القصر ، للإشارة إلى عتوهم في الكفر والضلال ، وإصرارهم على العناد والتكذيب.
وفي ذكر اسم الرحمن هنا : إشارة إلى عظيم رحمته ـ سبحانه ـ بإنزال هذا الذكر ، وتسجيل لأقصى دركات الجهالة عليهم ، لأنهم أعرضوا عن الهداية التي أنزلها الرحمن الرحيم لسعادتهم ، وحرموا أنفسهم منها وهم أحوج الناس إليها.
و (مِنَ) الأولى لتأكيد عموم إعراضهم ، والثانية لابتداء الغاية ، وجملة (إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) حالية.
ثم بين ـ سبحانه ـ سوء عاقبتهم فقال : (فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ).
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٢٩٩.