أى : فقد كذب هؤلاء الجاحدون بالذكر الذي أتيتهم به ـ أيها الرسول الكريم ـ دون أن يكتفوا بالإعراض عنه ، فاصبر فسيأتيهم أنباء العذاب الذي كانوا يستهزئون به عند ما تحدثهم عنه ، وهو واقع بهم لا محالة ولكن في الوقت الذي يشاؤه ـ سبحانه ـ.
وفي التعبير عن وقوع العذاب بهم ، بإتيان أنبائه وأخباره ، تهويل من شأن هذا العذاب ، وتحقيق لنزوله. أى : فسيأتيهم لا محالة مصداق ما كانوا به يستهزئون ويصيرون هم أحاديث الناس يتحدثون بها ويتناقلون أنباءها.
ثم وبخهم ـ سبحانه ـ على غفلتهم وعلى عدم التفاتهم إلى ما في هذا الكون من عظات وعبر. فقال ـ تعالى ـ : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ).
والاستفهام للإنكار والتوبيخ ، والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام.
أى : أعمى هؤلاء الجاحدون عن مظاهر قدرة الله ـ تعالى ـ ورحمته بهم ، ولم يروا بأعينهم كيف أخرجنا النبات من الأرض ، وجعلنا فيها أصنافا وأنواعا لا تحصى من النباتات الكريمة الجميلة المشتملة على الذكر والأنثى.
فالآية الكريمة توبيخ لهم على إعراضهم عن الآيات التكوينية ، بعد توبيخهم على إعراضهم عن الآيات التنزيلية ، وتحريض لهم على التأمل فيما فوق الأرض من نبات مختلف الأنواع والأشكال والثمار. لعل هذا التأمل ينبه حسهم الخامد وذهنهم البليد وقلبهم المطموس.
قال صاحب الكشاف : «وصف الزوج ـ وهو الصنف من النبات ـ بالكرم ، والكريم : صفة لكل ما يرضى ويحمد في بابه. يقال : وجه كريم إذا رضى في حسنه وجماله ، وكتاب كريم. أى : مرضى في معانيه وفوائده ... والنبات الكريم : المرضى فيما يتعلق به من المنافع.
فإن قلت : ما معنى الجمع بين كم وكل؟ قلت : قد دل (كُلِ) على الإحاطة بأزواج النبات على سبيل التفصيل. و (كَمْ) على أن هذا المحيط متكاثر مفرط الكثرة ، فهذا معنى الجمع بينهما ، وبه نبه على كمال قدرته ..» (١).
ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه الآيات بآيتين تكررتا في السورة الكريمة ثماني مرات. ألا وهما قوله ـ تعالى ـ (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).
أى : إن في ذلك الذي ذكرناه عن إنباتنا لكل زوج كريم في الأرض (لَآيَةً) عظيمة الدلالة على كمال قدرتنا ، وسعة رحمتنا ، وما كان أكثر هؤلاء الكافرين مؤمنين ، لإيثارهم العمى
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٣٠٠.