وهكذا ، عند ما تنحط الأفهام ، تتباهى بما يجب البعد عنه ، وتفتخر بالمرذول من القول والفعل ..
وقد رد عليهم إبراهيم ـ عليهالسلام ـ بما يوقظهم من جهلهم لو كانوا يعقلون ، فقال لهم : (هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ. أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ).
أى : قال لهم إبراهيم على سبيل التنبيه والتبكيت : هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله ، هل تسمع دعاءكم إذا دعوتموها ، وهل تحس بعبادتكم لها إذا عبدتموها ، وهل تملك أن تنفعكم بشيء من النفع أو تضركم بشيء من الضر؟.
ولم يستطع القوم أن يواجهوا إبراهيم بجواب. بعد أن ألقمهم حجرا بنصاعة حجته ، فلجأوا إلى التمسح بآبائهم فقالوا : (بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ).
أى : قالوا له : إن هذه الأصنام هي كما قلت يا إبراهيم لا تسمع دعاءنا ، ولا تنفعنا ولا تضرنا ، ولكننا وجدنا آباءنا يعبدونها ، فسرنا على طريقتهم في عبادتها ، فهم قالوا ما قاله أمثالهم في الجهالة في كل زمان ومكان (.. إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ).
وأمام هذا التقليد الأعمى ، نرى إبراهيم ـ عليهالسلام ـ يعلن عداوته لهم ولمعبوداتهم الباطلة ، ويجاهرهم بأن عبادته إنما هي لله ـ تعالى ـ وحده فيقول :
(أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ. أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ. فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ).
أى : قال لهم إبراهيم على سبيل الإنكار والتأنيب : أفرأيتم وشاهدتم هذه الأصنام التي عبدتموها أنتم وآباؤكم الأقدمون من دون الله ـ تعالى ـ إنها عدو لي لأن عبادتها باطلة لكن الله ـ تعالى ـ رب العالمين هو وليي وصاحب الفضل على في الدنيا والآخرة ، فلذا أعبده وحده.
فقوله (إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) استثناء منقطع من ضمير (فَإِنَّهُمْ).
قال صاحب الكشاف : وإنما قال : (عَدُوٌّ لِي) تصويرا للمسألة في نفسه ، على معنى : أنى فكرت في أمرى فرأيت عبادتي لها عبادة للعدو فاجتنبتها وآثرت عبادة الذي الخير كله منه ، وأراهم بذلك أنها نصيحة نصح بها نفسه أولا ، وبنى عليها تدبير أمره ، لينظروا فيقولوا : ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه ، ليكون أدعى لهم إلى القبول. ولو قال : فإنهم عدو لكم لم يكن بتلك المثابة ، ولأنه دخل في باب من التعريض ، وقد يبلغ التعريض للمنصوح ما لا يبلغه التصريح ، لأنه يتأمل فيه ، فربما قاده التأمل إلى التقبل ومنه ما يحكى عن