لانطماس بصائرهم وسوء تفكيرهم ـ يتوهمون أن الرسول لا يكون من البشر ، وإنما يكون من الملائكة.
ومفعول المشيئة محذوف. أى : ولو شاء الله عبادته وحده لأرسل ملائكة ليأمرونا بذلك ، فلما لم يفعل علمنا أنه ما أرسل رسولا ، فنوح ـ في زعمهم ـ كاذب في دعواه.
وقولهم : (ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) أى ما سمعنا بهذا الكلام الذي جاءنا به نوح في آباءنا الأولين ، الذين ندين باتباعهم ، ونقتدي بهم في عبادتهم لهذه الأصنام.
ثم هم لا يكتفون بهذا الجمود والتحجر ، بل يصفون نبيهم بما هو برىء منه فيقولون : (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ ، فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ).
والجنّة : الجنون ، يقال جنّ : فلان إذا أصيب بالجنون ، أو إذا مسه الجن فصار في حالة خبل وجنون.
والتربص : الانتظار والترقب ، أى : ما نوح ـ عليهالسلام ـ الذي يدعى النبوة ، إلا رجل به حالة من الجنون والخبل ، فانتظروا عليه إلى وقت شفائه من هذا الجنون أو إلى وقت موته ، وعندئذ تستريحون منه ، ومن دعوته التي ما سمعنا بها في آبائنا الأولين.
فأنت ترى أن القوم قد واجهوا نبيهم نوحا ـ عليهالسلام ـ بأقبح مواجهة حيث وصفوه بأنه يريد من وراء دعوته لهم السيادة عليهم ، وأنه ليس نبيّا لأن الأنبياء لا يكونون من البشر ـ في زعمهم ـ وأنه قد خالف ما ألفوه عن آبائهم ، ومن خالف ما كان عليه آباؤهم لا يجوز الاستماع إليه ، وأنه مصاب بالجنون وأنه عما قريب سيأخذه الموت ، أو يشفى مما هو فيه.
وهكذا الجهل والغرور والجحود ... عند ما يستولى على الناس ، يحول في نظرهم الإصلاح إلى إفساد ، والإخلاص إلى حب للرياسة ، والشيء المعقول المقبول. إلى أى شيء غير معقول وغير مقبول ، وكمال العقل ورجحانه ، إلى جنونه ونقصانه.
وصدق الله إذ يقول : (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها ، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ..).
ثم يحكى القرآن بعد ذلك أن نوحا ـ عليهالسلام ـ بعد أن استمع إلى ما قاله قومه في شأنه من ضلالات وسفاهات ، لجأ إلى ربه ـ عزوجل ـ يشكو إليه ما أصابه منهم ويلتمس