والمتأمل في هذه الآية الكريمة يرى أن الله ـ تعالى ـ وصف هؤلاء الجاحدين بالغنى والجاه ، وأنهم من قوم هذا النبي فازداد حسدهم له وحقدهم عليه ، وأنهم أصلاء في الكفر ، وفي التكذيب باليوم الآخر ، وأنهم ـ فوق كل ذلك ـ من المترفين الذين عاشوا حياتهم في اللهو واللعب والتقلب في ألوان الملذات .. ولا شيء يفسد الفطرة ، ويطمس القلوب ، ويعمى النفوس والمشاعر عن سماع كلمة الحق. كالترف والتمرغ في شهوات الحياة.
لذا تراهم في شبهتهم الأولى يحاولون أن يصرفوا الناس عن هذا النبي ، بزعمهم أنه بشر ، يأكل مما يأكل منه الناس ، ويشرب مما يشربون منه ، والعقلاء في زعمهم ـ لا يتبعون نبيّا من البشر ، لأن اتباعه يؤدى إلى الخسران المبين.
ولقد نهجوا في قولهم الباطل هذا ، نهج قوم نوح من قبلهم ، فقد قالوا في شأنه : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ ..).
أما شبهتهم الثانية التي أثاروها لصرف الناس عن الحق. فقد حكاها القرآن في قوله عنهم : (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ ..). أى : أيعدكم هذا الذي يدعى النبوة ـ وهو بشر مثلكم ـ أنكم إذا فارقتم هذه الحياة وصرتم أمواتا ، وصارت بعض أجزاء أجسامكم ترابا وبعضها عظاما نخرة ، أنكم مخرجون من قبوركم إلى الحياة مرة أخرى للحساب والجزاء؟.
والاستفهام في قوله (أَيَعِدُكُمْ) للإنكار والتحذير من اتباع هذا النبي ، والجملة مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها من الصد عن الاستماع إلى ما جاءهم به نبيهم ، لأنه ـ في زعمهم ـ يؤدى إلى الخسران.
وكرر ـ سبحانه ـ لفظ (أَنَّكُمْ) لبيان حرصهم على تأكيد أقوالهم الباطلة في نفوس الناس ، حتى يفروا من وجه نبيهم.
ثم حكى ـ سبحانه ـ أنهم لم يكتفوا بكل ما أثاروه من شبه لصرف أتباعهم عن الحق بل أضافوا إلى ذلك. أن ما يقوله هذا النبي مستبعد في العقول ، وأنه رجل افترى على الله كذبا ..
فقال ـ تعالى ـ : (هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ* إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ* إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ).
ولفظ «هيهات» اسم فعل ماض ، معناه : بعد بعدا شديدا ، والغالب في استعمال هذا اللفظ مكررا ، ويكون اللفظ الثاني مؤكدا تأكيدا لفظيا للأول.