وقريب من هذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (١).
ثم ساق ـ سبحانه ـ ما يدل على كمال قدرته ، حيث أوجد عيسى من غير أب وجعل أمه مريم تلده من غير أن يمسها بشر. فقال ـ تعالى ـ (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ...).
أى : وجعلنا نبينا عيسى ـ عليهالسلام ـ ، كما جعلنا أمه مريم ، آية واضحة وحجة عظيمة ، في الدلالة على قدرتنا النافذة التي لا يعجزها شيء.
قال أبو حيان : «قوله : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) أى : جعلنا قصتهما ، وهي آية عظمى بمجموعها ، وهي آيات مع التفصيل ، ويحتمل أن يكون حذف من الأول «آية» لدلالة الثاني ، أى : وجعلنا ابن مريم آية ، وأمه آية» (٢).
وقوله ـ تعالى ـ (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) بيان لجانب مما أنعم به سبحانه ـ على عيسى وأمه.
والربوة : المكان المرتفع من الأرض. وأصلها من قولهم : ربا الشيء يربو ، إذا ازداد وارتفع ، ومنه الربا لأنه زيادة أخذت على أصل المال.
ومعين ؛ اسم مفعول من عانه إذا أدركه وأبصره بعينه ، فالميم زائدة ، وأصله معيون كمبيوع ثم دخله الإعلال. والكلام على حذف مضاف. أى : وماء معين.
أى : ومن مظاهر رعايتنا وإحساننا إلى عيسى وأمه أننا آويناهما وأسكناهما ، وأنزلناهما في جهة مرتفعة من الأرض ، وهذه الجهة ذات قرار ، أى : ذات استقرار لاستوائها وصلاحيتها للسكن لما فيها من الزروع والثمار ، وهي في الوقت ذاته ينساب الماء الظاهر للعيون في ربوعها.
قالوا : والمراد بهذه الربوة : بيت المقدس بفلسطين ، أو دمشق ، أو مصر.
والمقصود من الآية الكريمة : الإشارة إلى إيواء الله ـ تعالى ـ لهما ، في مكان طيب ، ينضر فيه الزرع ، وتطيب فيه الثمار ، ويسيل فيه الماء ويجدان خلال عيشهما به الأمان والراحة.
ثم ختم ـ سبحانه ـ الحديث عن هؤلاء الأنبياء ، بتوجيه خطاب إلى الرسل جميعا ، أمرهم فيه بالأكل من الطيبات ، وبالتزود من العمل الصالح ، فقال ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً ، إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ).
__________________
(١) سورة القصص الآية ٤٣.
(٢) تفسير البحر المحيط ج ٦ ص ٤٠٨.