وقوله ـ سبحانه ـ (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) تذييل قصديه ببان سنة من سننه ـ تعالى ـ التي لا تتخلف أى إنه ـ سبحانه ـ قد اقتضت سنته أن لا يفوز الظالمون بمطلوب بل الذين يفوزون بالعاقبة الحميدة هم الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا.
ولكن هذا الرد المهذب الحكيم من موسى ـ عليهالسلام ـ ، لم يعجب فرعون المتطاول المغرور فأخذ في إلقاء الدعاوى الكاذبة ، التي حكاها القرآن عنه في قوله : (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي).
أى : وقال فرعون لقومه ـ على سبيل الكذب والفجور ـ يا أيها الأشراف من أتباعى. إنى ما علمت لكم من إله سواي.
وقوله هذا يدل على ما بلغه من طغيان وغرور ، فكأنه يقول لهم : إنى لم أعلم بأن هناك إلها لكم سواي ، ومالا أعلمه فلا وجود له.
وقد قابل قومه هذا الهراء والهذيان ، بالسكوت والتسليم ، شأن الجهلاء الجبناء وصدق الله إذ يقول : (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) (١) ثم تظاهر بعد ذلك بأنه جاد في دعواه أمام قومه بأنه لا إله لهم سواه ، وأنه حريص على معرفة الحقيقة ، فقال لوزيره هامان : (فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى).
والصرح : البناء الشاهق المرتفع. أى : فاصنع لي يا هامان من الطين آجرا قويا ، ثم هيئ لي منه بناء عاليا مكشوفا. أصعد عليه ، لعلى أرى إله موسى من فوقه. والمراد بالظن في قوله : (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) اليقين. أى : وإنى لمتيقن أن موسى من الكاذبين في دعواه أن هناك إلها غيرى .. في هذا الكون.
وهكذا. استخف فرعون بعقول قومه الجاهلين الجبناء ، فأفهمهم أنه لا إله لهم سواه ، وأن موسى كاذب فيما ادعاه.
وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ. أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى. وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ ، وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ. وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ). (٢) قال ابن كثير : وذلك لأن فرعون ، بنى هذا الصرح ، الذي لم ير في الدنيا بناء أعلى منه ،
__________________
(١) سورة الزخرف الآية ٥٤.
(٢) سورة غافر الآيتان ٣٦ ، ٣٧.