ثم قال ـ تعالى ـ : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ، ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ). (١)
وقوله ـ سبحانه ـ : (وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) بيان للأسباب التي من أجلها قص الله ـ تعالى ـ على نبيه صلىاللهعليهوسلم أخبار الأمم السابقة.
أى : أنت أيها الرسول الكريم ـ لم تكن معاصرا لتلك الأحداث ولكن أخبرناك بها عن طريق الوحى ، والسبب في ذلك أن بينك وبين موسى وغيره من الأنبياء أزمانا طويلة ، تغيرت فيه الشرائع والأحكام ، وعميت على الناس الأنباء ، فكان من الخير والحكمة أن نقص عليك أخبار السابقين بالحق الذي لا يحوم حوله باطل ، حتى يعرف الناس الأمور على وجهها الصحيح.
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف يتصل قوله : (وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً) بهذا الكلام؟
قلت : اتصاله به وكونه استدراكا له ، من حيث إن معناه : ولكنا أنشأنا بعد عهد الوحى إلى عهدك قرونا طويلة (فَتَطاوَلَ) على آخرهم : وهو القرن الذي أنت فيهم (الْعُمُرُ).
أى : أمد انقطاع الوحى ، واندرست العلوم ، فوجب إرسالك إليهم ، فأرسلناك وأكسبناك ـ أى : وأعطيناك ـ العلم بقصص الأنبياء .. فذكر سبب الوحى الذي هو إطالة الفترة ودل به على المسبب ، على عادة الله ـ تعالى ـ في اختصاراته (٢) وقوله ـ سبحانه ـ : (وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) مؤكدة لمضمون ما قبله. من عدم معرفة الرسول صلىاللهعليهوسلم لأخبار السابقين إلا عن طريق الوحى.
وقوله : (ثاوِياً) من الثواء بمعنى الإقامة. يقال : ثوى فلان بالمكان يثوى ثواء فهو ثاو ، إذا أقام فيه. والمثوى : المنزل ، ومنه الأثر القائل : أصلحوا مثاويكم ، أى : منازلكم.
أى : وما كنت ـ أيها الرسول الكريم ـ مقيما في أهل مدين ، وقت تلاوتك على أهل مكة المكرمة ، قصة موسى والشيخ الكبير وما جرى بينهما ، حتى تنقلها إليهم بطريق المشاهدة وإنما أنت أخبرتهم بها عن طريق وحينا الصادق المتمثل فيما أنزلناه عليك من آيات القرآن البينات.
__________________
(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٢٤٩.
(٢) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٤١٧.