وقوله ـ تعالى ـ : (مِنْ لَدُنَّا) أى : من جهتنا ومن عندنا وليس من عند غيرنا الذين تخشون غضبهم أو تخطفهم لكم ، إن اتبعتم الرسول صلىاللهعليهوسلم.
فالمقصود بهذه الجملة الكريمة بيان سعة فضل الله ـ تعالى ـ ، وأنه هو القادر على كل شيء.
وقوله ـ تعالى ـ (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) متعلق بقوله (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً).
أى : لقد جعلنا لهم حرما ذا أمن ، وأفضنا عليهم من خيرات الأرض ، ولكن أكثرهم يجهلون هذه الحقيقة ، ويجهلون أن اتباعهم للدين الحق ، يؤدى إلى سعادتهم في حياتهم وبعد مماتهم.
وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ، أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ ، وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ) (١).
ثم بين ـ سبحانه ـ الأسباب الحقيقية التي تؤدى إلى زوال النعم ، التي من بينها نعمة الأمان والاطمئنان ، فقال ـ تعالى ـ : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها).
وكم هنا خبرية للتكثير ، و (بَطِرَتْ) من البطر ، بمعنى الأشر والغرور واستعمال نعم الله ـ تعالى ـ في غير ما خلقت له.
أى : وكثيرا من أهل قرى كانت أحوالهم كحال أهل مكة في الأمن وسعة الرزق ، فلما بطروا معيشتهم ، واستعملوا نعمنا في الشر لا في الخير ، وفي الفسوق لا في الطاعة ، أخذناهم أخذ عزيز مقتدر ، بأن دمرناهم وقراهم تدميرا.
إذا فبطر النعمة وعدم الشكر عليها ، هو السبب الحقيقي في الهلاك ، وليس اتباع الهدى ، كما زعم أولئك المشركون الجاهلون.
قال القرطبي : «بين ـ سبحانه ـ لمن توهم ، أنه لو آمن لقاتلته العرب وتخطفته ، أن الخوف في ترك الإيمان أكثر ، فكم من قوم كفروا ثم حل بهم البوار. والبطر : الطغيان بالنعمة».
و (مَعِيشَتَها) أى : في معيشتها ، فلما حذف «في» تعدى الفعل ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً) (٢).
__________________
(١) سورة العنكبوت الآية ٦٧.
(٢) تفسير القرطبي ج ١٣ ص ٣٠١.