ثم بين ـ سبحانه ـ مآل مساكن هؤلاء الطاغين فقال : (فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً).
أى : فتلك مساكن هؤلاء الطغاة ترونها يا أهل مكة في أسفاركم ـ إنها لم تسكن من بعدهم إلا زمانا قليلا ، كالذي يرتاح بها وهو مسافر ثم يتركها إلى غير عودة إليها ، لأنها صارت غير صالحة لذلك لشؤمها.
(وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) أى : وكنا نحن وحدنا الوارثين لها منهم ، لأنهم لم يتركوا أحدا يرث منازلهم وأموالهم ، أو لأنها صارت خرابا لا تصلح للسكن.
ثم بين ـ سبحانه ـ مظهرا من مظاهر عدالته ، وسنة من سننه التي كتبها على نفسه فقال ـ تعالى ـ : (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا.) ..
والمراد ب (أُمِّها) أكبرها وأعظمها كمكة بالنسبة للجزيرة العربية.
أى : إن حكمة الله ـ تعالى ـ وعدالته قد اقتصت ، أن لا يهلك قرية من القرى التي كفر أهلها ، حتى يبعث في كبرى تلك القرى وأصلها رسولا من رسله الكرام ، يتلو على أهلها آياته ، ويبلغهم دعوته ، ويبين لهم الحق من الباطل.
وحكمة إرسال الرسول في كبرى تلك القرى ، لأنها المركز والعاصمة ، التي تبلغ الرسالة إلى القرى التابعة لها ، ولأنها في العادة ـ المكان المختار لسكنى وجهاء القوم ورؤسائهم.
قال ابن كثير ما ملخصه : وفي هذه الآية دلالة على أن النبي صلىاللهعليهوسلم المبعوث من أم القرى ـ وهي مكة ـ ، رسول إلى جميع القرى من عرب وأعجام ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها.). ، وقال ـ تعالى ـ : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً). وثبت في الصحيحين أنه قال : بعثت إلى الأحمر والأسود ، ولذا ختم به الرسالة والنبوة ، فلا نبي بعده ، ولا رسول ، بل شرعه باق بقاء الليل والنهار إلى يوم القيامة ، (١).
وقوله ـ سبحانه ـ : (وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) معطوف على ما قبله. وهو قوله : (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى) ومؤكد له.
أى : وما كنا في حال من الأحوال بمهلكى هذه القرى ، إلا في حال ظلم أهلها لأنفسهم ، عن طريق تكذيبهم لرسلنا وإعراضهم عن آياتنا ، وإيثارهم الكفر على الإيمان.
__________________
(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٢٥٨.