والتعبير بقوله ـ سبحانه ـ (فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) يشعر بزيادة حيرتهم وفرط دهشتهم فهم جميعا قد صاروا في حالة من الإبلاس والحيرة ، جعلتهم يتساوون في العجز والجهل.
وكعادة القرآن الكريم في الجمع بين حال الكافرين وحال المؤمنين ، أتبع الحديث عن الكافرين ، بالحديث عن المؤمنين فقال : (فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى) هذا التائب المؤمن المواظب على الأعمال الصالحة (أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) أى من الفائزين بالمطلوب.
قال ابن كثير : وعسى من الله ـ عزوجل ـ موجبة ، فإن هذا واقع بفضل الله ومنّه ـ أى وعطائه ـ لا محالة (١).
ثم بين ـ سبحانه ـ أن مرد الأمور جميعها إليه ، وأنه هو صاحب الخلق والأمر فقال : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ).
أى : وربك ـ أيها الرسول الكريم ـ يخلق ما يشاء أن يخلقه ، ويختار من يختار من عباده لحمل رسالته ، ولتبليغ دعوته. (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ).
و (ما) في قوله ـ تعالى ـ (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) نافية والخيرة من التخير وهي بمعنى الاختيار ، والجملة مؤكدة لما قبلها من أنه ـ سبحانه ـ يخلق ما يشاء ويختار.
أى : وربك وحده يخلق ما يشاء خلقه ويختار ما يشاء اختياره لشئون عباده ، وما صح وما استقام لهؤلاء المشركين أن يختاروا شيئا لم يختره الله ـ تعالى ـ أو لم يرده ، إذ كل شيء في هذا الوجود خاضع لإرادته وحده ـ عزوجل ـ ولا يملك أحد كائنا من كان أن يقترح عليه شيئا ولا أن يزيد أو ينقص في خلقه شيئا.
وليس لهؤلاء المشركين أن يختاروا للنبوة أو لغيرها أحدا لم يختره الله ـ تعالى ـ لذلك ، فالله ـ عزوجل ـ أعلم حيث يجعل رسالته.
قال القرطبي ما ملخصه : قوله : (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) أى : ليس يرسل من اختاروه هم.
وقيل : يجوز أن تكون (ما) في موضع نصب بيختار ، ويكون المعنى ، ويختار الذي كان لهم فيه الخيرة.
والصحيح الأول لإطباقهم الوقف على قوله (وَيَخْتارُ) ، و (ما) نفى عام لجميع الأشياء ، أن يكون للعبد فيها شيء سوى اكتسابه بقدرة الله ـ عزوجل ـ.
__________________
(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٢٦١.