ثم بين ـ سبحانه ـ ما قاله أولئك الخصوم لداود عند ما شاهدوا عليه أمارات الوجل والفزع ، فقال : (قالُوا لا تَخَفْ. خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ ، فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ ، وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ) ..
والبغي : الجور والظلم ... وأصله من بغى الجرح إذا ترامى إليه الفساد.
والشطط : مجاوزة الحد في كل شيء. يقال : شط فلان على فلان في الحكم واشتط .. إذا ظلم وتجاوز الحق إلى الباطل.
وقوله : (خَصْمانِ) خبر لمبتدأ محذوف أى : نحن خصمان. والجملة استئناف معلل للنهى في قولهم : «لا تخف». أى : قالوا لداود : لا تخف ، نحن خصمان بغى بعضنا على بعض ، فاحكم بيننا بالحكم الحق ، ولا تتجاوزه إلى غيره ، (وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ) أى : وأرشدنا إلى الطريق الوسط ، وهو طريق الحق والعدل.
وإضافة سواء الصراط ، من إضافة الصفة الى الموصوف.
ثم أخذا في شرح قضيتهما فقال أحدهما : «إن هذا أخى له تسع وتسعون نعجة ولى نعجة واحدة ، فقال أكفلنيها وعزنى في الخطاب».
والمراد بالأخوة هنا : الأخوة في الدين أو في النسب ، أو فيهما وفي غيرهما كالصحبة والشركة.
والنعجة : الأنثى من الضأن. وتطلق على أنثى البقر.
وقوله : (أَكْفِلْنِيها) أى : ملكني إياها ، وتنازل لي عنها ، بحيث تكون تحت كفالتى وملكيتى كبقية النعاج التي عندي ، ليتم عددها مائة.
وقوله : (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) أى : غلبني في المحاجة والمخاطبة لأنه أفصح وأقوى منى .. يقال : فلان عز فلانا في الخطاب ، إذا غلبه. ومنه قولهم في المثل : من عزّ بزّ. أى : من غلب غيره سلبه حقه. أى : قال أحدهما لداود ـ عليهالسلام ـ : إن هذا الذي يجلس معى للتحاكم أمامك أخى. وهذا الأخ له تسع وتسعون نعجة ، أما أنا فليس لي سوى نعجة واحدة ، فطمع في نعجتى وقال لي : «أكفلنيها» أى : ملكنيها وتنازل عنها «وعزنى في الخطاب».
أى : وغلبني في مخاطبته لي ، لأنه أقوى وأفصح منى.
وأمام هذه القضية الواضحة المعالم ، وأمام سكوت الأخ المدعى عليه أمام أخيه المدعى ،