طلب المغفرة من الله ـ تعالى ـ سبب لانفتاح أبواب الخيرات في الدنيا ، لأن سليمان طلب المغفرة أولا ، ثم توسل به إلى طلب المملكة (١).
ولا يقال كيف طلب سليمان ـ عليهالسلام ـ الدنيا والملك مع حقارتهما إلى جانب الآخرة وما فيها من نعيم دائم ؛ لأن سليمان ـ عليهالسلام ـ ما طلب ذلك إلا من أجل خدمة دينه وإعلاء كلمة الله في الأرض ، والتمكن من أداء الحقوق لأصحابها ، ونشر العدالة بين الناس ، وإنصاف المظلوم ، وإعانة المحتاج. وتنفيذ شرع الله ـ تعالى ـ على الوجه الأكمل.
فهو ـ عليهالسلام ـ لم يطلب الملك للظلم أو البغي .. وإنما طلبه للتقوى به على تنفيذ شريعة الله ـ تعالى ـ في الأرض.
ولقد وضح الإمام القرطبي هذا المعنى فقال : كيف أقدم سليمان على طلب الدنيا ، مع ذمها من الله ـ تعالى ـ ...؟
فالجواب : أن ذلك محمول عند العلماء على أداء حقوق الله ـ تعالى ـ وسياسة ملكه ، وترتيب منازل خلقه ، وإقامة حدوده. والمحافظة على رسومه وتعظيم شعائره ، وظهور عبادته ، ولزوم طاعته ... وحوشي سليمان ـ عليهالسلام ـ أن يكون سؤاله طلبا لنفس الدنيا. لأنه هو والأنبياء ، أزهد خلق الله فيها ، وإنما سأل مملكتها لله. كما سأل نوح دمارها وهلاكها لله ، فكانا محمودين مجابين إلى ذلك.
ومعنى قوله (لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) أى : أن يسأله. فكأنه سأل منع السؤال بعده ، حتى لا يتعلق به أمل أحد ، ولم يسأل منع الإجابة .. (٢).
والفاء في قوله ـ تعالى ـ : (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ) للتفريع على ما تقدم من طلب سليمان من ربه أن يهبه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده. والتسخير : التذليل والانقياد. أى : دعانا ـ سليمان ـ عليهالسلام والتمس منا أن نعطيه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ، فاستجبنا له دعاءه. وذللنا له الريح ، وجعلناها منقادة لأمره بحيث تجرى بإذنه رخية لينة ، إلى حيث يريدها أن تجرى.
وقوله : (تَجْرِي) حال من الريح. وقوله (بِأَمْرِهِ) من إضافة المصدر لفاعله. أى : بأمره إياها. ولا تنافى بين هذه الآية وبين قوله ـ تعالى ـ في آية أخرى : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها ...) (٣) لأن المقصود من الآيتين بيان أن
__________________
(١) تفسير الفخر الرازي ج ٧ ص ١٩٦.
(٢) تفسير القرطبي ج ١٥ ص ٣٠٤.
(٣) سورة الأنبياء الآية ٨١.