الثالث : أن قصة أنطاكية مع الحواريين أصحاب عيسى ، كانت بعد نزول التوراة ، وقد ذكر أبو سعيد الخدري وغيره ، أن الله تعالى بعد إنزاله التوراة لم يهلك أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم ، بل أمر المؤمنين بعد ذلك بقتال المشركين ...
فعلى هذا يتعين أن هذه القرية المذكورة. قرية أخرى غير أنطاكية .. فإن هذه القرية المشهورة بهذا الاسم لم يعرف أنها أهلكت ، لا في الملة النصرانية ولا قبل ذلك (١).
والذي يبدو لنا أن ما ذهب إليه الإمام ابن كثير هو الأقرب إلى الصواب وأن القرآن الكريم لم يذكر من هم أصحاب القرية ، لأن اهتمامه في هذه القصة وأمثالها ، بالعبر والعظات التي تؤخذ منها.
وضرب المثل في القرآن الكريم كثيرا ما يستعمل في تطبيق حالة غريبة ، بأخرى تشبهها ، كما في قوله ـ تعالى ـ (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ، كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما ، فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً. وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ).
فيكون المعنى : واجعل ـ أيها الرسول الكريم ـ حال أصحاب القرية ، مثلا لمشركي مكة في الإصرار على الكفر والعناد ، وحذرهم من أن مصيرهم سيكون كمصير هؤلاء السابقين ، الذين كانت عاقبتهم أن أخذتهم الصيحة فإذا هم خامدون ، لأنهم كذبوا المرسلين.
وقوله ـ سبحانه ـ : (إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) بدل اشتمال من (أَصْحابَ الْقَرْيَةِ).
والمراد بالمرسلين : الذين أرسلهم الله إلى أهل تلك القرية ، لهدايتهم إلى الحق.
وقوله : (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما ...) بيان لكيفية الإرسال ولموقف أهل القرية ممن جاءوا لإرشادهم إلى الدين الحق.
أى : إن موقف المشركين منك ـ أيها الرسول الكريم ـ ، يشبه موقف أصحاب القرية من الرسل الذين أرسلناهم لهدايتهم ، إذ أرسلنا إلى أصحاب هذه القرية اثنين من رسلنا ، فكذبوهما. وأعرضوا عن دعوتهما.
والفاء في قوله (فَكَذَّبُوهُما) للإفصاح ، أى : أرسلنا إليهم اثنين لدعوتهم إلى إخلاص العبادة لنا فذهبا إليهم فكذبوهما.
وقوله : فعززنا بثالث أى : فقو بنا الرسالة برسول ثالث ، من التعزيز بمعنى التقوية ، ومنه
__________________
(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٥٥٩.