أى : هذا القرآن ليس أساطير الأولين ـ كما زعم الجاحدون الجاهلون ـ وإنما هو منزل من عند الله ـ تعالى ـ صاحب الرحمة العظيمة الدائمة.
إذ لفظ «الرحمن» بمعنى عظيم الرحمة ، لأن فعلان صيغة مبالغة في كثرة الشيء وعظمته ، أما صيغة فعيل فتستعمل في الصفات الدائمة ككريم ، فكأنه ـ تعالى ـ يقول : هذا الكتاب منزل من الله ـ تعالى ـ العظيم الرحمة الدائمة.
قال بعض العلماء : وإنما خص هذان الوصفان بالذكر ، لأن الخلق في هذا العالم كالمرضى المحتاجين ، والقرآن مشتمل على كل ما يحتاج إليه المرضى من الأدوية ، وعلى كل ما يحتاج إليه الأصحاء من الأغذية. فكان أعظم النفع من الله على هذا العالم إنزال القرآن الناشئ عن رحمته ولطفه بخلقه (١).
ثم أثنى ـ سبحانه ـ على هذا القرآن الذي أنزله بمقتضى رحمته وحكمته فقال : (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ، بَشِيراً وَنَذِيراً).
ومعنى : (فُصِّلَتْ آياتُهُ) : ميزت في ألفاظها بفواصل ومقاطع ، وميزت في معانيها لاشتمالها على أنواع متعددة من المعاني الحكيمة.
وقوله (قُرْآناً) منصوب على المدح ، أو على الحال من كتاب ، و (عَرَبِيًّا) صفة للقرآن.
وقوله (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) متعلق بفصلت.
أى : هذا القرآن منزل من عند الله ـ تعالى ـ الذي وسعت رحمته كل شيء ، وهو كتاب فصلت آياته ووضحت وميزت من حيث ألفاظها تفصيلا بليغا ، إذ اشتملت على فواصل ومقاطع فيما بينها ليسهل فهمه وحفظه.
وفصلت آياته من حيث معانيها تفصيلا حكيما. إذ بعضها جاء لبيان ذاته وصفاته وأفعاله ـ تعالى ـ ، وبعضها اشتمل على ألوان من نعمه التي لا تحصى ، وبعضها جاء بأسمى أنواع الهدايات والآداب والأحكام والقصص والمواعظ ، وبعضها جاء لتبشير المؤمنين بحسن الثواب ، ولإنذار الكافرين بسوء العقاب.
وخص ـ سبحانه ـ الذين يعلمون بالذكر ، لأنهم هم الذين ينتفعون بما اشتمل عليه هذا الكتاب من تفصيل لآياته شامل لألفاظها ومعانيها.
__________________
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٢٨.