لقد بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما يقال للمجرمين فقال : (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) أى : ويقال للمجرمين في هذا اليوم ـ على سبيل الزجر والتأنيب انفردوا ـ أيها المجرمون ـ عن المؤمنين ، واتجهوا إلى ما أعد لكم من عذاب في جهنم ، بسبب كفركم وجحودكم للحق.
يقال : امتاز وتميز القوم بعضهم عن بعض ، إذا انفصل كل فريق عن غيره.
قال تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) (١).
وقوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) من جملة ما يقال لهم ـ أيضا ـ على سبيل التقريع والتوبيخ.
والعهد بالشيء : الوصية به ، والمراد به هنا : وصية الله ـ تعالى ـ للناس على ألسنة رسله ، أن يخلصوا له العبادة والطاعة ، وأن يخالفوا : ما يوسوس لهم به الشيطان من شرك ومعصية قال الآلوسى : والمراد بالعهد هنا. ما كان منه ـ تعالى ـ على ألسنة الرسل ـ عليهمالسلام ـ من الأوامر والنواهي التي من جملتها قوله ـ تعالى ـ (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ ...).
وقيل : هو الميثاق المأخوذ عليهم في عالم الذر ، إذ قال ـ سبحانه ـ (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى).
وقيل : هو ما نصب لهم من الحجج العقلية والسمعية الآمرة بعبادة الله ـ تعالى ـ الزاجرة عن عبادة غيره ...
والمراد بعبادة الشيطان : طاعته فيما يوسوس به إليهم ، ويزينه لهم ، عبر عنها بالعبادة لزيادة التحذير والتنفير عنها (٢).
والمعنى : لقد عهدت إليكم ـ يا بنى آدم ـ عهدا مؤكدا على ألسنة رسلي ، أن لا تعبدوا الشيطان وأن لا تستمعوا لوسوسته ، وأن لا تتبعوا خطواته ، لأنه لكم عدو ظاهر العداوة ، بحيث لا تخفى عداوته على أحد من العقلاء.
فجملة (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) تعليل لوجوب الانتهاء عن طاعة الشيطان.
__________________
(١) سورة الروم الآيات من ١٤ ـ ١٦.
(٢) تفسير الآلوسى ج ٢٣ ص ٤٠.