الضمير في المقرّبون ، أي : كائنين فيها. قرأ الجمهور : (فِي جَنَّاتِ) بالجمع ، وقرأ طلحة بن مصرّف «في جنة» بالإفراد ، وإضافة الجنات إلى النعيم من إضافة المكان إلى ما يكون فيه كما يقال : دار الضيافة ودار الدعوة ودار العدل ، وارتفاع (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم ثلة ، والثلة الجماعة التي لا يحصر عددها. قال الزجاج : معنى ثلة معنى فرقة ، من ثللت الشيء ؛ إذا قطعته ، والمراد بالأوّلين هم الأمم السابقة من لدن آدم إلى نبينا صلىاللهعليهوسلم (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) أي : من هذه الأمّة ، وسمّوا قليلا بالنسبة إلى من كان قبلهم ، وهم كثيرون لكثرة الأنبياء فيهم وكثرة من أجابهم. قال الحسن : سابقوا من مضى أكثر من سابقينا. قال الزجاج : الذين عاينوا جميع الأنبياء وصدّقوا بهم أكثر ممّن عاين النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، ولا يخالف هذا ما ثبت في الصحيح من قوله صلىاللهعليهوسلم : «إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة. ثم قال : ثلث أهل الجنة ، ثم قال : نصف أهل الجنة» لأن قوله : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ* وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) إنما هو تفصيل للسابقين فقط كما سيأتي في ذكر أصحاب اليمين أنهم ثلة من الأولين وثلة من الآخرين ، فلا يمتنع أن يكون في أصحاب اليمين من هذه الأمة من هو أكثر من أصحاب اليمين من غيرهم ، فيجتمع من قليل سابقي هذه الأمة ومن ثلة أصحاب اليمين منها من يكون نصف أهل الجنة ، والمقابلة بين الثلثين في أصحاب اليمين لا تستلزم استواءهما لجواز أن يقال : هذه الثلة أكثر من هذه الثلة ، كما يقال : هذه الجماعة أكثر من هذه الجماعة وهذه الفرقة أكثر من هذه الفرقة ، وهذه القطعة أكثر من هذه القطعة. وبهذا تعرف أنه لم يصب من قال إن هذه الآية منسوخة بالحديث المذكور. ثم ذكر سبحانه حالة أخرى للسابقين المقربين فقال : (عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) قرأ الجمهور (سُرُرٍ) بضم السين والراء الأولى ، وقرأ أبو السّمّال وزيد بن عليّ بفتح الراء ، وهي لغة كما تقدّم ، والموضونة : المنسوجة : والوضن : النسج المضاعف. قال الواحدي : قال المفسرون : منسوجة بقضبان الذهب ، وقيل : مشبكة بالدرّ والياقوت والزبرجد ، وقيل : إنّ الموضونة : المصفوفة. وقال مجاهد : الموضونة : المرمولة (١) بالذهب ، وانتصاب (مُتَّكِئِينَ عَلَيْها) على الحال ، وكذا انتصاب (مُتَقابِلِينَ) والمعنى : مستقرّين على سرر متكئين عليها متقابلين لا ينظر بعضهم قفا بعض (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) الجملة في محل نصب على الحال من المقرّبين ، أو مستأنفة لبيان بعض ما أعدّ الله لهم من النعيم ، والمعنى يدور حولهم للخدمة غلمان لا يهرمون ولا يتغيّرون ، بل شكلهم شكل الولدان دائما. قال مجاهد : المعنى لا يموتون. وقال الحسن والكلبي : لا يهرمون ولا يتغيّرون. قال الفراء : والعرب تقول للرجل إذا كبر ولم يشمط إنه لمخلد. وقال سعيد بن جبير : مخلدون مقرّطون. قال الفراء : ويقال مخلدون : مقرّطون ، يقال : خلد جاريته ؛ إذا حلاها بالخلدة ، وهي القرط. وقال عكرمة : مخلدون : منعّمون ، ومنه قول امرئ القيس :
وهل ينعمن إلا سعيد مخلّد |
|
قليل الهموم ما يبيت بأوجال |
وقيل : مستورون بالحلية ، وروي نحوه عن الفراء ، ومنه قول الشاعر :
__________________
(١). «مرمولة» : منسوجة.