الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) أي : أصحاب اليمين ، وهم الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم ، أو الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة ، وأصحاب الميمنة مبتدأ ، وخبره : ما أصحاب الميمنة ، أي : أيّ شيء هم في حالهم وصفتهم ، والاستفهام للتعظيم والتفخيم ، وتكرير المبتدأ هنا بلفظه مغن عن الضمير الرّابط ، كما في قوله : (الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ) (١) و (الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ) (٢) ولا يجوز مثل هذا إلا في مواضع التفخيم والتعظيم ، والكلام في (أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) كالكلام في أصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة ، والمراد الّذي يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار ، أو يأخذون صحائف أعمالهم بشمالهم ، والمراد تعجيب السامع من حال الفريقين في الفخامة والفظاعة ، كأنه قيل : فأصحاب الميمنة في نهاية السعادة وحسن الحال ، وأصحاب المشأمة في نهاية الشقاوة وسوء الحال. وقال السدّي : أصحاب الميمنة هم الذين كانوا عن يمين آدم حين أخرجت الذرية من صلبه ، وأصحاب المشأمة هم الذين كانوا عن شماله. وقال زيد بن أسلم : أصحاب الميمنة هم الذين أخذوا من شق آدم الأيمن ، وأصحاب المشأمة هم الذين أخذوا من شقه الأيسر. وقال ابن جريج : أصحاب الميمنة هم أهل الحسنات ، وأصحاب المشأمة هم أهل السيئات. وقال الحسن والربيع : أصحاب الميمنة هم الميامين على أنفسهم بالأعمال الصالحة ، وأصحاب المشأمة هم المشائيم على أنفسهم بالأعمال القبيحة. وقال المبرد : أصحاب الميمنة أصحاب التقدّم ، وأصحاب المشأمة أصحاب التأخر ، والعرب تقول : اجعلني في يمينك ولا تجعلني في شمالك ، أي : اجعلني من المتقدّمين ولا تجعلني من المتأخرين ، ومنه قول ابن الدّمينة :
أبنيّتي أفي يمنى يديك جعلتني |
|
فأفرح أم صيّرتني في شمالك |
ثم ذكر سبحانه الصنف الثالث فقال : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) والتكرير فيه للتفخيم والتعظيم كما مرّ في القسمين الأوّلين ، كما تقول أنت أنت وزيد زيد ، والسابقون مبتدأ ، وخبره السابقون. وفيه تأويلان : أحد هما أنه بمعنى السابقون هم الذين اشتهرت حالهم بذلك. والثاني : أن متعلق السابقين مختلف ، والتقدير : والسابقون إلى الإيمان السابقون إلى الجنة. والأوّل أولى لما فيه من الدلالة على التفخيم والتعظيم. قال الحسن وقتادة : هم السابقون إلى الإيمان من كل أمة. وقال محمد بن كعب : إنهم الأنبياء. وقال ابن سيرين : هم الذين صلّوا إلى القبلتين. وقال مجاهد : هم الذين سبقوا إلى الجهاد ، وبه قال الضحاك. وقال سعيد بن جبير : هم السابقون إلى التوبة وأعمال البرّ. وقال الزجاج : المعنى والسابقون إلى طاعة الله هم السابقون إلى رحمة الله. وقيل : ووجه تأخير هذا الصنف الثالث مع كونه أشرف من الصنفين الأوّلين هو أن يقترن به ما بعده ، وهو قوله : (أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) فالإشارة هي إليهم ، أي : المقرّبون إلى جزيل ثواب الله وعظيم كرامته ، أو الذين قربت درجاتهم وأعليت مراتبهم عند الله. وقوله : (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) متعلق بالمقربون ، أي مقرّبون عند الله في جنات النعيم. ويجوز أن يكون خبرا ثانيا لأولئك ، وأن يكون حالا من
__________________
(١). الحاقة : ١ ـ ٢.
(٢). القارعة : ١ ـ ٢.