أنّها تكذّبهم وتعاديهم بلسان الحال لا بلسان المقال. وأما الملائكة والمسيح وعزيز والشياطين فإنهم يتبرّؤون ممّن عبدهم يوم القيامة ؛ كما في قوله تعالى : (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) (١). (وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) أي : كان المعبودون بعبادة المشركين إياهم كافرين ، أي : جاحدين مكذّبين. وقيل : الضمير في «كانوا» للعابدين ، كما في قوله : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) (٢) ، والأوّل أولى. (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) أي : آيات القرآن حال كونهم (بَيِّناتٍ) واضحات المعاني ظاهرات الدلالات (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِ) أي : لأجله وفي شأنه ، وهو عبارة عن الآيات (لَمَّا جاءَهُمْ) أي : وقت أن جاءهم (هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي : ظاهر السّحرية (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) «أم» هي المنقطعة ؛ أي : بل أيقولون افتراه؟ والاستفهام للإنكار والتعجب من صنيعهم ، وبل للانتقال عن تسميتهم الآيات سحرا إلى قولهم : إن رسول الله افترى ما جاء به ، وفي ذلك من التوبيخ والتقريع ما لا يخفى. ثم أمره الله سبحانه أن يجيب عنهم ، فقال : (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي : قل إن افتريته على سبيل الفرض والتقدير : كما تدّعون ، فلا تقدرون على أن تردّوا عنّي عقاب الله ، فكيف أفتري على الله لأجلكم وأنتم لا تقدرون على دفع عقابه عني (هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ) أي : تخوضون فيه من التكذيب والإفاضة في الشيء : الخوض فيه والاندفاع فيه ، يقال : أفاضوا في الحديث ، أي : اندفعوا فيه ، وأفاض البعير : إذا دفع جرّته من كرشه ، والمعنى : الله أعلم بما تقولون في القرآن وتخوضون فيه من التكذيب له والقول بأنه سحر وكهانة (كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) فإنه يشهد لي بأن القرآن من عنده وأني قد بلّغتكم ، ويشهد عليكم بالتكذيب والجحود ، وفي هذا وعيد شديد (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) لمن تاب وآمن وصدّق بالقرآن وعمل بما فيه ، أي : كثير المغفرة والرحمة بليغهما (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) البدع من كلّ شيء المبدأ ، أي : ما أنا بأوّل رسول ، قد بعث الله قبلي كثيرا من الرسل. قيل : البدع بمعنى البديع كالخفّ والخفيف ، والبديع : ما لم ير له مثل ، من الابتداع وهو الاختراع ، وشيء بدع بالكسر ، أي : مبتدع ، وفلان بدع في هذا الأمر ، أي : بديع ، كذا قال الأخفش ، وأنشد قطرب :
فما أنا بدع من حوادث تعتري |
|
رجالا غدت من بعد بؤس بأسعد (٣) |
وقرأ عكرمة وأبو حيوة وابن أبي عبلة «بدعا» بفتح الدال على تقدير حذف المضاف ، أي : ما كنت ذا بدع ، وقرأ مجاهد بفتح الباء وكسر الدال على الوصف. (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) أي : ما يفعل بي فيما يستقبل من الزمان هل أبقى في مكة أو أخرج منها؟ وهل أموت أو أقتل؟ وهل تعجل لكم العقوبة أم تمهلون؟ وهذا إنما هو في الدنيا. وأما في الآخرة فقد علم أنه وأمته في الجنة وأن الكافرين في النار. وقيل : إن المعنى : ما أدري ما يفعل بي ولا بكم يوم القيامة ، وإنها لما نزلت فرح المشركون وقالوا : كيف نتبع نبيا لا يدري ما يفعل به ولا بنا ، وأنه لا فضل له علينا؟ فنزل قوله تعالى : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ
__________________
(١). القصص : ٦٣.
(٢). الأنعام : ٢٣.
(٣). البيت لعديّ بن زيد.