كمال استحقاقهنّ للسكنى في مدّة العدّة ، ومثله قوله : (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَ) (١) وقوله : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ) (٢) ثم لما نهى الأزواج عن إخراجهن من البيوت التي وقع الطلاق وهنّ فيها نهى الزوجات عن الخروج أيضا ، فقال : (وَلا يَخْرُجْنَ) أي : لا يخرجن من تلك البيوت ما دمن في العدّة ؛ إلا لأمر ضروري كما سيأتي بيان ذلك ، وقيل : المراد لا يخرجن من أنفسهن إلا إذا أذن لهنّ الأزواج فلا بأس ، والأول أولى (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) هذا الاستثناء هو من الجملة الأولى ، أي : لا تخرجوهن من بيوتهن ، لا من الجملة الثانية. قال الواحدي : أكثر المفسرين على أن المراد بالفاحشة هنا الزنا ، وذلك أن تزني فتخرج لإقامة الحدّ عليها. وقال الشافعي وغيره : هي البذاء في اللسان والاستطالة بها على من هو ساكن معها في ذلك البيت ، ويؤيد هذا ما قال عكرمة : إن في مصحف أبيّ «إلا أن يفحشن عليكم» وقيل : المعنى : إلا أن يخرجن تعديا ، فإنّ خروجهن على هذا الوجه فاحشة ، وهو بعيد ، والإشارة بقوله : (وَتِلْكَ) إلى ما ذكر من الأحكام ، وهو مبتدأ ، وخبره (حُدُودُ اللهِ) والمعنى : إن هذه الأحكام التي بيّنها لعباده هي حدوده التي حدّها لهم ، لا يحل لهم أن يتجاوزوها إلى غيرها (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ) أي : يتجاوزها إلى غيرها ، أو يخلّ بشيء منها (فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) بإيرادها مورد الهلاك ، وأوقعها في مواقع الضرر بعقوبة الله له على مجاوزته لحدوده وتعديه لرسمه ، وجملة : (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) مستأنفة لتقرير مضمون ما قبلها وتعليله. قال القرطبي : قال جميع المفسرين : أراد بالأمر هنا الرغبة في الرجعة ؛ والمعنى : التحريض على طلاق الواحدة والنهي عن الثلاث ، فإنه إذا طلق ثلاثا أضرّ بنفسه عند الندم على الفراق والرغبة في الارتجاع ، فلا يجد إلى المراجعة سبيلا. وقال مقاتل بعد ذلك : أي بعد طلقة أو طلقتين أمرا بالمراجعة. قال الواحدي : الأمر الّذي يحدث أن يوقع في قلب الرجل المحبة لرجعتها بعد الطلقة والطلقتين. قال الزجاج : وإذا طلّقها ثلاثا في وقت واحد فلا معنى لقوله : (لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً). (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) أي : قاربن انقضاء أجل العدة ، وشارفن آخرها (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) أي : راجعوهنّ بحسن معاشرة ورغبة فيهنّ من غير قصد إلى مضارة لهنّ (أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) أي : اتركوهن حتى تنقضي عدتهنّ ، فيملكن نفوسهن مع إيفائهنّ بما هو لهنّ عليكم من الحقوق وترك المضارة لهنّ (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) على الرجعة ، وقيل : على الطلاق ، وقيل : عليهما قطعا للتنازع وحسما لمادة الخصومة ، والأمر للندب كما في قوله : (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) وقيل : إنه للوجوب ، وإليه ذهب الشافعي ، قال : الإشهاد واجب في الرجعة ، مندوب إليه في الفرقة ، وإليه ذهب أحمد بن حنبل. وفي قول للشافعي : إن الرجعة لا تفتقر إلى الإشهاد كسائر الحقوق ، وروي نحو هذا عن أبي حنيفة وأحمد (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) هذا أمر للشهود بأن يأتوا بما شاهدوا به تقرّبا إلى الله ، وقد تقدم تفسير هذا في سورة البقرة. وقيل : الأمر للأزواج بأن يقيموا الشهادة ، أي : الشهود عند الرجعة ، فيكون قوله : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) أمرا بنفس الإشهاد ، ويكون قوله : (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ) أمرا بأن تكون خالصة لله ، والإشارة بقوله : (ذلِكُمْ)
__________________
(١). الأحزاب : ٣٣.
(٢). الأحزاب : ٣٤.